بما أن الكثير من وقائع اليوم من الناحية السلوكية هي امتداد لوقائع الأمس، لذا فإن المقاطع المتلاحقة من الفيديوهات المسربة من قبل المنتهكين أنفسهم في العملية العسكرية التركية في عفرين، والتي تنشر تباعاًعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك ما كتبَته قبل أيام الكاتبة اللبنانية ديانا مقلّد عن المقاتلة بارين كوباني، أعادني إلى االفترة التي عاشها اللبنانيون وذاقوه وتجرعوه من الجيش والأمن السوريين خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والصورة الذهنية التي كانت مرسّخة آنذاك لدى المواطن اللبناني تجاه الجيش السوري، إذ في عام 1996 كنا نعمل في بيروت، نبني ما ساهم في هدمه نظام حزب البعث الحاكم في سوريا، ومن هم على شاكلته من حكام المنطقة، وفي إحدى الأماسي وبينما كان أحد السوريين يبدي رأيه بما كان مؤمناَ تمام الإيمان به، وهو أن قوات الردع السورية دخلت إلى لبنان لحماية اللبنانيين من بعضهم، أو لتخلصيهم من براثن الحرب الأهلية، وذلك بناءً على ما تلقفه من الإعلام الرسمي للنظام آنذاك،إلاّ أن أحد المهندسين اللبنانيين رد عليه وقال له: إنك لا زلت منقاداً من قبل إعلامك الرسمي كما تقاد أغلبية الدهماء، وأردف المهندس اللبناني جان ضو قائلاً:ليكن بعلمك ان الجندي الإسرائيلي كان أكثر نبلاً في التعامل معنا من الجندي السوري! والجندي الإسرائيلي جاء ليرقينا إلى مستواه بينما العسكري السوري فجاء ليعيدنا إلى عصر التخلف والانحطاط الذي كان يعيشه، والجندي الإسرائيلي لم يهن كرامتنا، ولا أتى لينال من شرفنا، ولا كانت غايته إنتهاك أعراضنا أمام أعيننا، بينما الجندي السوري العقائدي ففعل كل ذلك بنا، وجاء لينتقم منا، لأنه كان دوننا ثقافة، ودوننا رقياً، ودوننا حضارةً؛ ذلك ما قاله المهندس ضو للزميل السوري، وعلى كل حال لم يكنذلك رأي ذلك المهندس وحده، إنما كان الرأي العام اللبناني مُجمعاً حينها على تلك الصورة الذهنيةالقبيحة عن الجيش السوري.

وبخصوص سوريا عامةً والمناطق الكردية بوجهٍ خاص، فالصورة الذهنية التي تشكلت لدى معظم الكرد عن الكتائب الاسلامية منذ غزو غرباء الشام لرأس العين في عام 2012، وكذلك خلال سنوات الثورة السورية التي تحولت فيما بعد إلى حرب أهلية، هي ليست بأفضل من الصورة التي كانت قد تشكلت لدى اللبناني عن الجندي السوري، إذ أن ما يحدث في عفرين هو بالنسبة للكثير من سكان المنطقة أقرب إلى نظرة اللبنانيين للجيش السوري آنذاك، لئن لسان حال أغلبهم يقول: إن تلك الكتائب جاءت وهي معبأة بالحقد والكراهية تجاه المنطقة وسكانها، ولا وظيفة لديها غير النيل من أهلها وانتهاك أعراض ساكنيها تحت ذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني.

وكما كان الانطباع السائد عن الجيش السوري لدى اللبنانيين مقيتاً، فمن بعض الانطباعات التي تشكلت عن أصحاب الرايات السود لدى الكرد عامةً وعند أهالي عفرين بوجهٍ خاص، نستشفه من خلال الكلام الذي تتناقله الألسن في المنطقة وخارجها، إذ تخبر سيدة من بلدة كفرجنة في عفرين اختها في بلاد الغربة وهي بكل حرقةٍ وخوف تقول: بأن كل واحدة من نساء وبنات القرية تحمل قنينة سم في حقيبتها وأنه لمجرد وصول الهمج إلى مقربةٍ منهن ستتناول كل واحدة منهن سم قنينتها حتى لا ترى الوحش القادم وهو يلمس جسدها؛ إذ مع تتالي الأحداث وتناقل القصص فقد تكونت صورتهم لدى مواطنو المنطقة على أنهم ليسوا محررين وفاتحين كما يقولون عن أنفسهم، إنما هم قومٌ همجيون وأنهم أقرب إلى الوحوش البربرية منه إلى المحررين.

وثمة من يقول بأن الدافع الأبرز الذي لا يُظهره لا مُرسل تلك الكتائب، ولا ممولها، ولا من يفتح الدروب والشعاب أمامها للدخول إلى عفرين، بأنه انتقام للدواعش الذين تقهقر مشروعهم في عموم سورية وهزيمتهم النكراء في كوباني والرقة، وأن النيل من عفرين جاء بكونها المنطقة التي تلفظ التطرف والمتطرفين، وتراهم مجرد رسلٍ للخراب والدمار ورمز العودة إلى عصور الظلام.

والواضح من خلال الردود الجماهيرية للحملة التركية ومن معها من المقاتلين الذين تركوا مناطقهم لأسبابٍ مالنظام الأسد، وبناءً على طلب الممول راحوا إلى تلك المنطقة التي تتفأف مسبقاً من كل تشدُّد ديني ليحاربوا رديف حزب العمال الكردستاني نيابة عن الآخرين، أن معظم أهالي المنطقة سيقف بالضد من الذي يحاول اجتياحها، وذلك ليس حباً بالاتحاد الديمقراطي، ولا حباً بعبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، ولا حباً بوحدات الحماية الشعبية، إنما لشناعة الصورة الذهنية المرسخة عن القادم إليها؛ حيث تقول العامة إن الذي خُلق وهو يحقد على معتنقي دينٍ بأكمله، علماً أنه لم يرَ أحداً منهم، فمن الطبيعي أن يحقد على الكرد من خلال الضخ الإعلامي الموجه ضدههم من قبل قنوات تلفزيونية وظيفتها الأساس شيطنة الكرد من خلال شماعة محاربة الفصائل العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، ويضيف آخرون بأن مَن يهين أشخاصاَ من العامة لأنهم فقط كانوا أكرداً، ومن كان في منهجه وثقافته وتربيته اليومية أن الكرد أعداءٌ بالجملة وفقاً لتقارير إعلامية أجريت في أماكن متفرقة من إدلب، فشيء طبيعي وفق هذه المعطيات أن يتحول كل عفريني إلى معادي لهذا الغازي بدافع الذود عنكرامته وكرامة أهله، طالما أن القادم جاء ليهينه ويذله ويغتصب نساءه ويستولي على أمواله بجعلها غنائم له ولأترابه، وهذا ما أراه سيحصل، وهو ما قرأته حتى في صفحات كردٍ كانوا يعملون في بداية الثورة بحماسٍ منقطع النظير مع الجيش السوري الحر.

عموماً بما أن الإنسان من خلال اصطفافه يعبّر عما يؤمن به وما هو أقرب إلى ثقافته وسلوكياته والقيم التي يتمثلها، لذا كان من الطبيعي أن يخرج مئات الأتراك للتعبير عن رفضهم لاجتياح عفرين، فمنهم من تعرض للاعتقال، ومنهم من خسر كل امتيازاته من الدولة لقاء موقفه، كـ: دنيز ناكي لاعب كرة القدم التركي الذي تم تغريمه بـ 72 ألف $ بسبب وقوفه ضد العملية التركية في عفرين، كما أنه وفقاً لـ: بي بي سي التركية أن 510 من كبار محامي ومثقفي تركيا وقعوا على بيانٍ دعماً لأطباء أتراك أعلنوا أن هذه الحرب التي تشنها تركيا على عفرين هي انتهاك لحقوق الإنسان، وتم القبض على 13منهم لحد الآن، حيث أنهم عبروا عن إنسانيتهم، وإنسانيتهم طغت على الأحقاد التي يبثها الإعلام ويروجها العنصريون ليسوقوا من خلال ما تبثه القنوات التلفزيونية تلك الجحافل البشرية إلى البراري التي يريدونهم فيها، وذلك بخلاف الكثير من كتاب ونشطاء الثورة السورية الذين انساقوا مع الشعارات وحاكوا محاكاة تامة الخطاب الرسمي التركي، كما كانوا يحاكون الخطاب الرسمي لنظام الأسد ابان انتهاكات جنوده وضباطه في لبنان، وبالتلي الادعاء بأنهم ذاهبون لتحرير المنطقة من ب ك ك، بينما الأخبار الميدانية حسب أهالي القرى التي دخلوا إليها كـ: ناحية بلبل وبلدة قسطل جندو الإيزيدية تقول بأنهم ذهبوا فقط للغنائم وتفريغ سخائمهم في تراب عفرين وناسها.