تندلع الحروب الاهلية لأسباب عدة، منها ما يكون على أساس قومي او عرقي او ديني، ومنها ما يكون بسبب عدم الرضا السياسي او الاقتصادي والاجتماعي. الحروب الاهلية تجلب العديد من المئآسي الإنسانية، وتربك الحياة اليومية للمواطنين، إضافة الى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولهذه الحروب إفرازات خطرة منها المنظور والملموس كالقتلى والجرحى والمعوقين، والدمار الاقتصادي والمالي والبيئي، ومنها غير المنظور الذي لا تظهر آثاره إلا بعد توقف الاعمال الحربية، وعواقبه وخيمة على الدولة والمجتمع، ويحتاج الى وقت طويل لمعالجته. وفي هذه العجالة سنلقي الضوء على بعض هذه الافرازات غير المرئية.

الأطفال

تعتبر الصدمة النفسية من أشد وأكثر الآثار السلبية للحروب الاهلية على الأطفال، فغالبا ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب مثل صفارات الإنذار، وصوت الطائرات، ومنظر الجنود المدججين بالأسلحة يهاجمون الاحياء والمنازل ويقتلون من يواجههم. هذه المناظر المؤلمة ترسخ في عقول الأطفال لفترة طويلة، ويعبرون عنها بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد. أما إذا كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الاطفال لحالات الموت المروعة أو الجثث المشوهة لأقاربهم فإنها يمكن أن تؤثر على حالتهم النفسية وقدراتهم العقلية لفترة طويلة. كما تتسبب الصدمة في معاناة الأطفال من مشكلات عصبية ونفسية ممتدة، مثل الحركات اللاإرادية، وقلة الشهية للطعام، والابتعاد عن مخالطة الناس (أي الانزواء)، والميل للتشاؤم واليأس. وقد صنف علماء النفس بصفة خاصة الصدمة النفسية التي تتركها الحروب لدى الأطفال في باب الآثار المدمرة، مما جعل الخبراء المختصين يقومون بالدراسات المستفيضة وتحليلها للوصول إلى نتائج تساعد على بذل كل الجهود، والعمل على مراعاة الأطفال في زمن الحروب وإيوائهم وتأهيلهم وتحصينهم قدر الإمكان عن الآثار النفسية والمعنوية التي يمكن أن تلحق بهم.

النساء الأرامل

تؤدي الحروب الاهلية الى زيادة اعداد الأرامل نتيجة اعمال العنف والقتل على الهوية، ولا توجد إحصاءات دقيقة حول هذا الموضوع في الدول العربية التي لا زالت الحروب الاهلية قائمة فيها على الرغم من أهميته. وتعاني النساء الارامل من تدهور حالتهن النفسية والمادية، والكثير منهن لا يستطعن تدبير نفقات العيش لهن ولأطفالهن، كما ان فرص الزواج مرة ثانية تعتبر ضعيفة جدا وغير متاحة للأغلبية منهن. كما تؤدي الحروب الاهلية الى ارتفاع معدلات الطلاق وتفكك الأسر، والنزوع الى ممارسة الأعمال غير الشرعية من اجل توفير المال اللازم لتوفير نفقات العيش.

العاطلون عن العمل

تراجعت فرص العمل في الدول العربية بشكل كبير بسبب الحروب الدائرة منذ العام 2011م على الأرض العربية. وأدت تلك الحروب، بالإضافة إلى آثارها المدمرة الأخرى التي لا تقل أهمية، إلى تزايد في نسب البطالة لم تشهد له المنطقة العربية مثيلا من قبل. من جانبها أكدت منظمة العمل الدولية أن البطالة ما زالت عند مستويات مرتفعة في أسواق العمل في الشرق الأوسط، وأن اتجاهاتها في تزايد مستمر بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتتال والحروب الاهلية التي أدت الى تدمير الكثير من البنى التحتية والمصانع والمنشآت التجارية. منظمة العمل العربية تتحدث عن ضياع حوالي عشرة ملايين فرصة عمل في العالم العربي بسبب هذه الحروب، وأن الحجم الكلي للبطالة في الوطن العربي سيرتفع إلى حوالي 42 مليون عاطل.

اللاجئون

أصدرت الأمم المتحدة مؤخرا تقريرا ذكرت فيه أن أعداد اللاجئين السوريين في دول المحيط وصلت إلى حوالي خمسة ملايين شخص، يتركزون في دول أصلا تعاني من أزمات سياسية واقتصادية فاقمتها مخيمات اللجوء، هذا فضلا عن 13,5 مليون نازح داخل الأراضي السورية. وتعتبر تركيا المقصد الأول للاجئين السوريين منذ اندلاع الحرب في بلادهم، وتقدر أعدادهم هناك بنحو ثلاثة ملايين لاجئ، يتوزع معظمهم في المدن الرئيسية الكبرى، في حين يقيم نحو 15% منهم في مخيمات خاصة باللاجئين منتشرة أغلبها في المناطق الحدودية مع سوريا. وفي لبنان سجلت حركة اللاجئين السوريين ارتفاعا ملحوظا عبر الحدود، حيث بلغت أعدادهم مع نهاية 2016م حوالي 1,1 مليون شخص، ما أدى إلى ارتفاع عدد السكان هناك بنسبة 25% وإحداث ضغط هائل على البنى التحتية لهذا البلد الصغير ذو الموارد المحدودة.

وفي الأردن يقدر عدد اللاجئين السوريين بحوالي 656 ألف شخص، يعيش نحو 20% منهم في مخيمات تنتشر على المناطق الحدودية مع سوريا. إضافة الى حوالي 250 ألف لاجئ سوري توجهوا الى العراق، ويستقر معظم هؤلاء في شمال العراق في مدن مثل دهوك وأربيل، ويعيش نحو 40% منهم في مخيمات للاجئين أقيمت في مناطق حدودية. يضاف الى كل هؤلاء اللاجئون من ليبيا والعراق واليمن الذين غادروا الى البلدان الأوروبية منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي، ولا توجد احصائيات دقيقة عن عددهم. وكذلك اللاجئين من الداخل، أي الذين نزحوا من مناطق القتال في بلدانهم الى مناطق أكثر أمنا.

المشاكل الاقتصادية والإعمار وإصلاح البنية التحتية سوف تعالج بعد سنوات من الاستقرار السياسي، ولكن المشاكل الاجتماعية وتوابعها تحتاج لسنوات طويلة لمعالجة آثارها، هذا إذا قدر لهذه البلدان ان تنعم بالاستقرار السياسي وتبقى موحدة.