ستظل طريدا مدحورا إلى أن تستطيع أن تجد طريقك نحو مدونة التاريخ وتخط سطرا , يبرز حكايتك الخاصة ومرويتك الشخصية التي قد تتقاطع مع الحكاية الرسمية , حكاية تحذق مخاتلة النخب التي تستأثر بالنص وتخضعه لوصاية ورقابة صارمة.

تلك النخب عادة لاتنصت إلى حكاية الهوامش والأطراف وبمن فيهم النساء , لربما لأن المجتمعات عبر التاريخ أقصتهن عن مواضع صناعة القرار , أو لأنه لا يوجد لهن حيز في مجلس الرجال الكبير.

وعندما قالت سيمون دي بوفوار (أنا لا أولد امرأة إنما أربي كي أصبح كذلك) فأنها بدأت تضع مسافة بينها وبين العالم كي ترصده وتستقل عنه وتعيد تفسيره وتفكيكه من خلال وجه نظر وتجربة المرأة عموما .

فأصبحت هذه الجملة هي أبرز شعارات الحركات النسوية في العالم , وهي أعادة النظر في جميع الأساطير والمسلمات والقوالب التي يعدها المجتمع للنساء منذ الولادة.

والحركة النسوية في السعودية تعاني مأزقا واضحا على مستوى التنظير والتوثيق والتحليل, بالشكل الذي يقصيها عن بلورة هوية واضحة لها , وإن كان هناك على أرض الواقع حراك نسوي واضح المعالم لكن لم يرافقه نشاط بحثي يدعمه ويمهد أرضيته , ويمثل له الغطاء الفكري الذي تتبناه الحركة النسوية الحقوقية , في مواجهة تيار أصولي متربص من ناحية ومد استهلاكي يروج للهشاشة والتفاهة من ناحية أخرى.

وأعتقد إن قرار تعليم البنات وهو أبرز قرار تاريخي في مسيرة المرأة في المملكة , حيث أتاح للمرأة حيزا في الفضاء العام , كما فتح كوة في جدار بني بحجارة الحرملك والعورة .

هذه الخطوة بقيت على مستوى الإجراء الإداري الرسمي وحتى بعد إن أصبح تعليم المرأة إلزاميا , ولكن لم يرافقها حواضن فكرية واجتماعية تنظر لها وتعزز هذه الخطوة التنموية الكبرى , على حين ظل الممسكون بقيادة الخطاب الفكري والثقافي المتعلق بالنساء في المملكة هم نفسهم أولئك الذين كانوا يمانعون بشكل محتقن وعنيف تعليمها, ومن هنا ضمن التيار أن يبقى تعليم النساء تحت رقابته وقبضته, وفق نفس الأسس المنهجية والفكرية, المنطلقة من حمولة فقهية ثقيلة تحمل في جلها موقفا سلبيا من النساء.

ولانستطيع هنا أن نغفل كتاب د. عبدالله الوشمي فتنة القول بتعليم النساء /2009 , الذي تناول مشروع تعليم النساء بشكل ايجابي بالتنظير والبحث والتحليل , ولكن عموما الكتاب لم يتضمن بعدا نسويا , بقدر ما كان يرمي إلى دفع تهمة معارضة تعليم البنات عن أهل منطقة معينة في المملكة . 

 

بعد تعليم المرأة الذي حضر مدعوما بصيغته الرسمية , استقلت حركة 90 ميلادية بقرارها عبر قيادة باقة من النساء سيارتهن متجاوزات قانون المنع , هذا التجربة مع انعكاساتها على المستوى العام والرسمي تمثل منعطفا تاريخيا في الحراك النسوي المحلي, لذا جوبهت بردة فعل عنيفة على أكثر من مستوى جعلها تضمحل وتتلاشى دون أن تكون هناك مؤلفات وحواضن فكرية ترصد انعكاساتها على محيطها (وإن كانت ضئيلة) فقد تم التعامل معها كحركة مارقة, وفرغت من محتواها النضالي والحقوقي.

حتى إنها لم تحظ بالتدوين إلا بعد ربع قرن من الحادثة على يد أحدى بطلاتها د. حصة آل الشيخ , ود.عائشة المانع , عبر كتاب 6 من نوفمبر والذي صدر عام 2013 , وهو كتاب توثيقي أكثر منها تحليلي يربط هذه الحركة بأبعادها السياسية والاجتماعية , ومنطلقاتها الفكرية المرتبطة بالحراك النسوي.

 

وطوال تلك السنوات ترك الفضاء العام نهبا للخطاب أصولي متطرف , يتضمن جميع الأدبيات المعادية للمرأة التي تختار من التاريخ كل ما هو متطرف وقمعي فتوظفه ضد تمكين المواطنات.

وعدا هذا هناك شحوب كبير في الدراسات الخاصة بالمرأة , وأن كانت جامعة الأميرة نورة أسست لها مركز دراسات للمرأة مؤخرا , إلا أننا إلى الآن لم نشهد نتاجا مؤثرا و واضحا يمثل خطابا نسويا متماسكا يتوازى مع المكتسبات التي حققتها المرأة في هذا التوقيت بالذات , الذي تقود فيه الإرادة السياسية حراكا مطردا وسريعا يستهدف تمكين المواطنة , ولأن هذا التقدم لم يواكب بحراك فكري يمد أذرعه من أبراج النخب ليجعله يشمل بقية شرائح المجتمع , فإن منجز المواطنة يظل مهددا بالتقهقر والضمور في مواجهة خطاب متطرف أصولي ظل ومازال مهيمنا , ويمثل مركزية فكرية لفترات طويلة.

إما الجيل الثالث من النسويات , كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي ميدانهن الأبرز والتي طرحن من خلاله الكثير من القضايا المتعلقة بحقوق المرأة , كان من أبرزها حق المواطنة بولاية نفسها على المستوى الشرعي والإداري .

وتواجد هذا التاق لفترة طويلة بين جنبات وسائل التواصل استطاع أن يجعل من مطالبهن قضية رأي عام لفتت إليها الانتباه بشكل واضح , ولكنها مابرحت تفتقر إلى التأصيل الشرعي والتنظير القانوني والنظامي الذي يجعل منها حقيقية واقعة في يوميات المواطنة .

مع الأسف مجال الدراسات النسوية يعاني من فقر شديد يرجع إلى كثرة المحاذير التي تطوقه , يرافقه حالة كسل كبرى من الأكاديميات المعنيات بالموضوع , فيكتفين بالمقالات الصحفية , والظهور المناسباتي , دون تأسيس مشروع فكري متكامل يؤسس لنسوية سعودية واضحة المعالم .