يقول الأديب الكبير "جورج جرداق" في كتابه الرائع "الإمام علي صوت العدالة الإنسانية": وإذا كان من العظماء قوم يتألقون ويتآخون ويخدمون حقيقة واحدة في جوهر ما يعيشون ويقولون ويعملون من دون المشابهة في الجزئيات والتفاصيل، لاختلاف الأزمنة والأحداث والمناسبات، فإن عليا وسقراط يخدمان حقيقة واحدة في جوهر ما قالا وما عملا، ثم يتشابهان حتى في الجزئيات وهذه التفاصيل او في معظمها على الأقل. إن شيئا من الجهد في دراسة الرجلين يأذن لنا بأن نقسم وجوه الشبه بينهما الى قسمين رئيسيين: الأول عام والثاني خاص. أما العام فنوجزه فيما يلي:

إن كلا من الرجلين مظهر كريم للإرادة الفذة الصابرة والإيمان العميق بخير الوجود المطلق وخير الإنسان، ورمز للحنين السامي الذي تعانيه نفوس الآدميين ساعة يستشعرون توقا خفيا الى توحيد الكون في قيمة واحدة شاملة تنبثق منها كل حقيقة. ثم إن كلا من الرجلين صورة حية خالدة عن تجمع المثل العليا في إنسان، ووحدة تامة من العقل والقلب والضمير تسعى في تركيز أصول عامة يحيا عليها الفرد المهذب، ويقوم عليها بناء الدولة المهذبة، فأركان الإنسانية الواحدة المهذبة. وأن اخبار كل من سقراط وعلي واخبار خصومهما لتمثل أروع تمثيل قصة الصراع بين النور والظلمة في تاريخ البشر، او قل الحق والباطل او العدالة والغبن او الحياة المتطورة الفاتحة والجمود الآسن الفاسد. أما الثاني، وهو الخاص، فإليك جملة مظاهره:

إن كلا من سقراط وعلي برزت فصول حياتهما العامة في بلد كثر فيه الوجهاء والمستغلون وطلاب الحكم وانصارهم والمستنفعون بهم، وفي عهد عمت فيه الفوضى علاقات الحاكم بالمحكوم، وانحرفت مقاييس التصرفات والأخلاق العامة واستشرت الفردية لا تحسب إلا لنفسها حسابا. وكلاهما شعر بمسؤولية العقل والضمير نحو المشردين والمغبونين والمستضعفين والمضلين، فوقف حياته لهدايةهؤلاء ورفع الحيف عن هؤلاء حتى قضى شهيدا، وفي يده ألا يقف هذا الموقف لو شاء وألا يستشهد.

وكلاهما حارب الطغاة واهل البغي وأصحاب الوجاهات والمستنفعين بضعف الضعيف وجهل الجاهل حربا لا هوادة فيها، فتألبوا عليه وضايقوه وهددوه كل يوم بموت جديد، حتى اذا وعدوه بالسلامة والعافية إن هو هادن او لان او غض عن منكراتهم عينيه، أبى إلا الاستقامة مسلكا وإلا الضمير مرشدا وإلا العقل هاديا ودليلا، فإذا بالحق لم يترك لسقراط نصيرا إلا ممن اضاء طريقهم وحي الحياة وهدتهم الفضيلة. واذا بالحق لم يترك لعلي معينا إلا نفرا ممن سما بهم الحب وتحركت في نفوسهم المروءات.

وكلاهما كان في عهده مظهرا لمجتمع جديد وحاجات جديدة، فتصدى للأحوال العامة يريد تبديلها، وللتقاليد التي توارثها الوجهاء او استحدثها المستوجهون يهدم منها ما كان ليبني مكانها ما يجب ان يكون. وهكذا عد سقراط ثائرا وهو ثائر بالفعل، وكان علي ثائرا وان لم ينعتوه بما نعت به ابدا كبار المصلحين عبر مراحل التاريخ. وكلاهما كان خطرا على طبقات معينة من المستنفعين بالأحوال الراهنة، فما كان منهم في أثينا إلا ان لفقوا التهم ضد سقراط مفترين ظالمين. وما كان منهم في الحجاز والشام إلا ان لفقوا التهم ضد علي مفترين آثمين. وكلاهما جابه الطغاة في كل ميدان وعلى كل صعيد، وحطم نفاق السياسيين في زمانه وفضح نياتهم، واخرج السياسة من نطاق التهريج الى نطاق جديد صحيح هو العمل في سبيل الجماعة عملا يرتكز على المعرفة وهي قاعدة الفضيلة.

وكلا الرجلين ألح على الرسالة الاجتماعية الملقاة على كواهل المفكرين والحكماء والفلاسفة، وجعلهم وحدهم حكام الناس وقادة البشر. وكل حكم في مذهبه لا يكون صاحبه مفكرا حكيما فيلسوفا هو اغتصاب أحمق وعمل تافه وحكم سخيف. وكلاهما جابه الماجنين والأثرياء والأقوياء واهل السلطان وكانزي الذهب وأصحاب الجيوش وذوي المكر والدهاء، بسلامة الفطرة الإنسانية وقدرة العقل وحرارة القلب ووهج الضمير والإيمان بخير الحياة. وكلا الرجلين لم يحكم على معارضيه ومناوئيه بسوء، إفساحا في المجال امام الرأي الحر، وتهديما عمليا للفكرة التي عاش في ظلامها حكام التاريخ وأكثر مفكريه، التي تقول: "إن الظلم من شيم النفوس". وكلا الرجلين فهم الإله وأدركه وأحبه على نحو واحد.

بإيجاز يمكن القول: إن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة آثر الصدق حيث يضره على الانحراف حيث ينفعه بمقاييس العاديين من الناس، وكان مثالا يحتذى في المروءات كلها، ومثلا اعلى في الشجاعة الأدبية التي يعتز بها تراث الانسان، ونبيا لم يكترث إلا بالحق ولم يهب الموت في سبيله. وإن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة جعل العمل والقول شيئا واحدا فلم يفصل بين هذا وذاك، وجعل همه الأول الإنسان وخدمته. وإن كلا منهما كان واسع العلم، قوي الحجة، رضي الخلق، حليم الطبع، صلب العزيمة، فائق الجرأة. وبهذا كان عظيم أثينا وعظيم الكوفة بحق "عملاقي العقل والقلب والضمير".