يمكن القول إن هناك توجها سعوديا منذ قرابة العامين بات من بين أبرز النشاطات للقيادة السعودية فيما يخص بناء الصورة العالمية للمملكة بطبيعتها التي تحتم عليها أن تكون مركزا للعالم الإسلامي. هذا الاتجاه ليس وليدا، لكن تم تفعيله بشكل يجعله من ضمن الأولويات لدى مهام المؤسسات السعودية التي يمكن أن تشترك في هذا المشهد.

إذ يبدو أن المملكة العربية السعودية تقود من نفسها اليوم لأن تصبح النموذج العالمي في مسألة التسامح الديني. لقد وجدت المملكة أن كثيرا من التصورات الخاطئة عنها فيما يتعلق بمسائل مثل التسامح مع الآخرين كان يستخدم من قبل الأجندة الخارجية المعادية كأدلة على علاقة المملكة بالإرهاب، حيث الإرهاب يبدأ بفكرة كراهية الآخرين، الأمر الذي تم التصدي له بالعمل على إيضاح حقيقة أن الشعب السعودي يتقبل الجميع، وليس لديه مشاكل جوهرية من هذا النوع.

وحينما تأتي بعض المؤسسات الإعلامية والحقوقية والسياسية لتدين المملكة بهذه الاتهامات، فإن الأدلة تكون أن المملكة العربية السعودية لا تلبي متطلبات التسامح الديني مع الآخرين، أو أن المناهج الدراسية تعالج موضوع العلاقة مع أبناء الديانات الأخرى بكم هائل من التخوين والتخويف، إلى غير ذلك مما يمكن ذكره من مهارات الصياد في الماء العكر.

ولذا فقد قررت المملكة أن تتحول فعليا من مدافع في هذا الميدان إلى مهاجم فيه عبر وضع الاستراتيجيات التي تضمن التحول الإيجابي في هذه المسألة.

&كانت أول الخطوات أن تم تذكير السعوديين أنفسهم ببعض الممارسات التي فُهمت خطأً عن الإسلام، فالإسلام هو دين الرحمة والوسطية ومنبع الاعتدال في كل شيء. وهو بحق كان قرارا صائبا من القيادة، إذ عانى المجتمع السعودي من بعض المفاهيم الخاطئة التي حسبت بشكل أو بآخر على أنها شعائر دينية ترتبط بمسائل الاعتقاد، بينما كان معظمها في الأصل إما اجتهادات ترجمت لتكون مسلمات، وإما اختلافات فقهية باب الفتيا فيها يتسع لأكثر من رأي.

إذن: بدأت فكرة التسامح الديني من داخل المجتمع السعودي نفسه حينما أدرك أن جزءا من اعتقاداته في الماضي خصوصا فيما يتعلق بعلاقة فكره مع الآخرين، وعلاقة الآخرين به لم تعد كما صُورت له من قبل البعض. وكان مما ساهم في تنبيه المجتمع السعودي بمثل هذه القضايا أن هيئة كبار العلماء في المملكة قادت بنفسها تصحيح بعض المفاهيم السلبية التي تم فهمها بشكل خاطئ، بالإضافة إلى عزم القيادة على السير نحو واقع جديد يقود التأثيرات السلبية على المملكة من هذا النوع إلى الزوال.

وجاءت أول النقاشات الصريحة في هذا الاتجاه من قبل سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حينما سلط الضوء على موضوع الصحوة التي برأيه اختطفت جزءا من عمر السعوديين وعملت على إبقائه مكبلا بكثير من القيود وكثير من الاجتهادات الخاطئة بشكل لا يمكن معه التقدم نحو الأمام.

ويأتي هذا القرار من سمو ولي العهد في وقت باتت دول العالم الصاعدة تفترق فيه نحو طريقين: إما التقهقر والضعف والغياب عن المشهد، وإما التقدم باتجاه نهاية النفق. ويبدو أن الخيار الثاني الذي اتخذ وهو التقدم إلى الأمام لم يكن بتلك السهولة، بل احتاج شجاعة فائقة ربما تظل هي الأبرز في تاريخ المملكة الحديث.

اليوم في لمحة سريعة، يوقن غالبية السعوديين أن الدين الإسلامي لا يمنعهم من الانخراط في المنظومة العالمية التي يترجمها كثير من المشاهد السطحية كاستخدام التطبيقات والتواصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع مئات الملايين الذين يأتون من مختلف الأعراق والديانات، عدا تلك المشاهد العميقة التي تتمثل في ارتباط السعوديين بالنظام العالمي الممتد ليشمل القطاعات المالية والتعليمية والثقافية.

لكن ما الذي يميز المملكة في قيادة هذا النوع من التسامح؟ الجواب بكل بساطة هو أن المملكة العربية السعودية وكقائدة للعالم الإسلامي تمثل النموذج الغالب الذي يعتد به مليار ونصف مسلم في تعاملهم مع الآخرين من خلال تأثير المملكة الزماني والمكاني.

وسوف تزول تدريجيا تلك الفكرة التي فهمها الكثير بشكل خاطئ عن المملكة خلال الثلاثين سنة الماضية، وذلك من خلال شواهد كثر أهمها استقطاب الفعاليات الترفيهية وعقد المؤتمرات الخارجية والداخلية التي تخدم في هذا الاتجاه؛ كما سيكون حضور السياحة السعودية لدى ملايين الناس من أقطار العالم ضمن رؤية 2030 رافدا مهما في هذا الجانب.

كاتب سياسي سعودي