بلا شك في أن زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية فرانسيس و شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب لدولة الإمارات مطلع فبراير الجاري ، حدثٌ تاريخيّ جدير بالإهتمام والتقدير. لا سيما بعدما انبثق عنها توقيعهما لوثيقة "الأخوة الإنسانية"، التي وُصفت بأنها إعلان مشترك عن نوايا صادقة، من أجل دعوة كل من يحملون في قلوبهم إيمانا بالله وإيمانا بالأخوة الإنسانية أن يتوحدوا ويعملوا معا، منأجل أن تصبح هذه الوثيقة دليلاً للأجيال القادمة، تأخذهم إلى ثقافة الاحترام المتبادل، في جو من إدراك النعمة الإلهية الكبرى التي جعلت من الخلق جميعا إخوة.

الخطوة لاقت ترحيبًا في معظم الأواسط الثقافية والدينية والسياسية حول العالم، ولدى الكثير من المتابعين من دعاة السلام وتكريس قيم التسامح بين الشعوب. لكنها في الوقت عينه طرحت عميق التساؤلات عن فحوى هذه الوثيقة وبنودها، وما يمكن أن يترتّب عليها من تغيير حقيقي وتجديدٍ فعلي، في البنى الفكرية المؤسسة للعقائد، وللديانتيْن الأكثر نفوذًا في العالم والأوسع انتشارًا.

فَهل يُمكن تحرير الفكر العقائدي "السماوي" المسيحي والإسلامي واليهودي، من أسر التفسيرات والنهوض بَخطاب فكري جديد ؟ دون أن يقتصر الأمر على تزيين شَكلي للخطاب الديني تحت مسمى التجديد؟

وهل يمكن أن تُشَكّل هذه الوثيقة، خطوة حقيقية للوصول إلى مرحلة الإقرار التّام بحرية الإنسان العقائدية، مع ما يترتب على ذلك من حريته الكاملة في البقاء خارج إطار أي ديانة أو عقيدة؟

وهل يُمكن أن يترافق ذلك مع اقرار الحقوق المدنية، لا سيما لغير الراغبين في إقحام رجال الدين في أمورهم الحياتية الشخصية كقضايا الميراث والزواج وغيرها؟

وهل يمكن أن تكون الحريّة الدينية والحريّة الفكرية هي المنطلق لتأسيس خطاب علماني يؤدي إلى قيام دول مدنية حقيقية ؟

بلا شك ستكون "الوثيقة " التي وقعها البابا وشيخ الأزهر، حدثاً مفصلياً بارزاً و تاريخياً مهماً، إن هي أحدثت بالفعل إنقلابًا في استراتيجيات الفكر الديني نفسه، الإسلامي منه والمسيحيّ على حدٍّ سواء، فعندها ستكون المرحلة المقبلة آنة لانبعاث فكر نهضوي فاعل حرّ.

الإشكالية الحقيقية، ومكمن العلّة – من وجهة نظري- لا تكمن في شَكليات العلاقة بين أتباع الديانات حول العالم، بقدر ما هي مُترسخة في استراتيجية الفكر الديني والعقائدي نَفسه.

فالحاجة ملحة وأكثر من أي يوم مضى إلى تحرير الفكرالانساني من كل تبعية، فعندها سيكون الفكر حرًّا متسامحًا بطبيعة الحال كونه جزء من الحرية نفسها . والفكر الحر هو الذي لا ينطلق من شروط مسبقة، وَ غير منبني على منطلقات محضّرة، و هو عارٍ عن أي برمجيات معدة سَلفًا أو جاهزة.

ولا يمكن بلوغ التطور الحضاري المنشود وما زالت الحريات الفردية والدينية ناهيك عن الفكرية غائبة ! فعند مناقشة القضايا المجتمعية المنبثقة عن الرؤية التي يحددها المجتمع تجاه الكائن الانساني وحقوقه وواجباته، غالبا ما تذوب المشكلات الأساسية في سياق التأويلات المؤدلجة النفعية لنصّ الخطاب الديني. فالتحرر الإنساني من الارتهان والقمع، مرتبط وقبل كل شيئ بالتحرر الاجتماعي والفكري العام.

إن القراءة التاريخية - لنفوذ الكنيسة في أوروبا وما أعقبه من أحداث أدت إلى عصر النهضة إضافة إلى مراجعة تطور الفكر الإسلامي المعاصر - تشير إلى عظيم دور المؤسسات اللاهوتية ومملكة الفقهاء، التي تعتبر أن أمر تسيير شؤون البلاد والعباد جزء محوري من مهماتها، وأن الله هو من أوكل لها هذه المهمة!

كما أن بَعض الأنظمة السياسية تَخشى من "الفكر الحر" ، و تمنع "الحرية الفكرية"، لأن تحرر الفكر يعني الخروج بالدرجة الأولى عما تعتبره تلك المؤسسات من المسلمات لدوام نفوذها، كما تحد من الحريات الفكرية العامة و تستعين بالخطاب الديني لصالح خطابها السياسي. وفي كل الأحوال فإن ذلك يؤدي الى حالة التراجع الحضاري المرّ.

إذن ؛ إن مواكبة فكر مغاير في عالمنا المعاصر، تحتاج قبل كل شيئ إلى التحرر من سلطة "النص الديني" بل ومن كافة "النصوص" المؤدلجة الأخرى ، وإعادة النظر في عملية تأويل الخطاب ، لأن دراسة الظواهر في عصرالمتناقضات تحتاج الى دراسة بنية الفكر نفسها، إذ لا بدمن الوصول الى صيغة لإيجاد موقع فكري تنتفي معه خاصيّة "التيارية " او "هويّة السور"، بحيث يكون المفكّر والمثقف محرَّر وعارٍ من الروابط كلها، ويكون البحث عندها يعلو حتى على الوقائع التاريخية نفسها.

وبالمقارنة مع المناهج الفكرية نجد اننا أمام منهجين اثنين : منهج يركّز على الموضوع ويجردّه من كافة سياقاته ومساقاته. ومنهج يركز على العلاقات، في اطار دمج افضىإلى اختلاف حاد في اساليب الاستدلال العقلي.

إن عملية تحليل القيم العقليّة المهيمنة في فكرنا المعاصر وفهم العوامل الفاعلة فيه يجب ان لا تُسقِط من حسابها بحال من الأحوال أن ما هو علمي وراهن وواقع في يومنا هذا، سيصبح لامحالة متجاوزًا فيما بعد، وهذا يعني أن عملية نقد الفكر وتحليل القيم العقلية هي في حد ذاتها سيرورة مستمرة وعملية لا متناهية.

على أية حال فإن الوثيقة المعلنة ترطبّ الأجواء وتخفف من حدّة الاحتقان، وفيها من الشاعرية الجميلة لفتح كوة نور في عتمة الليل الحالك، لكنها لم تقدم "جديدًا" يحدث إنقلابًا فكريًّا يطال النص الديني نفسه، ويدعو إلى فكرّ حرّ.

ونقرأ ما ورد في وثيقة الأخوة التي نشرته وستئل الاعلام من بند عن الحرية ماجاء فيها: ((أنَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ انسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ، وتجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْض اسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر.))

إذن؛ "وثيقة الأخوة الإنسانية " دعتْ إلى ترسيخ "الحريَّة الفكرية" نعم، لَكنها لم تدعُ الى "الفكر الحر"، أي الى خروج الفكر عن برمجيته الدينية، لأن الفكر الحر لا يرتكز على الوصفات الجاهزة الصادرة عن رجال الكهنوت والدين أو غيرهم .

أخيرا، يبقى السؤال المطروح إلى أيّ حدٍّ يعمل فهمنا للفكر ولتاريخه كمعوق أساسي يتحدى ولادة فكر جديد؟وما مستقبله في ضوء السياق الكوني؟

ثم ؛ ألا يعود سبب عجزنا الفكري الى فهمنا للفكر نفسه ونظرتنا الى تاريخه وحرص مفكرينا على تنميط النماذج وجعلها واقعًا!؟

أسئلة لن تجيب عنها المؤسسات الدينية ولا الأنظمة السياسية ! بل منوط بقادة الابداع الاجابة عنها وبلورتها ، كما منوط بالافراد السعيّ نحو الحرية الفكرية بوصفها حقًا جوهريًا من حقوق المواطنة وواجبًا في الوقت نفسه. فربما غدًا يكون قد فات الأوان!