كان الناس في مصر لا يتزوجون في الحقبة العثمانية ولا يطلقون إلا في بيت القضاة الأربعة وذلك لإيفاء الرسوم المحصلة على تسجيل العقود، التي كانت أحد مصادر الدخل الرئيسة للخزانة العثمانية.

إيلاف: يحلل هذا البحث "الزواج في مصر العثمانية" للباحث في التاريخ الحديث والمعاصر في كلية الآداب، جامعة الإسكندرية محمد سيد محمود حسين، قضايا الزواج في مصر العثمانية، منذ دخول العثمانيين إلى مصر حتى مجيء الحملة الفرنسية. 

ويرصد البحث حالات الزواج والمعاملات اليومية في المجتمع المصري في العصر العثماني، من خلال قضايا مسجلة في سجلات المحاكم الشرعية، وبذلك تعتبر تحليلًا للحياة الاجتماعية، من خلال علاقات الأفراد بعضهم ببعض، إضافة إلى علاقاتهم بالإدارة من خلال تعامل الأفراد مع مؤسسة القضاء والمحاكم الشرعية في الحياة اليومية العامة، وطبيعة الأحكام الصادرة لهم ومدى تأثيرها عليهم، ومن هنا يساعد البحث على قراءة التاريخ من القاعدة الشعبية.

مصدر دخل رئيس
يركز البحث الصادر من وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية على الربط بين فقه الأحوال الشخصية وقضايا الزواج في مصر العثمانية؛ للوقوف على مدى أهمية الأثر الفقهي في قضايا الزواج، ومدى التزام مؤسسة القضاء في مصر العثمانية بالفقه في قضايا الأزواج. وقد اتبع الباحث المنهج التاريخي؛ حيث إن هذه الدراسة في الأصل دراسة تاريخية لقضايا الزواج في مصر العثمانية، كما استعان بالمنهج التحليلي لدراسة بعض القضايا.

دخول العثمانيين مصر قد أحدث بعض التغيرات المهمة في تاريخها

يقول الباحث إن بداية تنظيم تسجيل العقود في المحكمة في مصر في العصر العثماني قد حسمت بأمر صدر عام 927هـ/ 1520م بأن: "لا يتزوج أحد من الناس ولا يطلق إلا في بيت القضاة الأربعة"، وكان ذلك في الغالب متعلقًا بمسألة الرسوم المحصلة على تسجيل العقود، والتي تمثل أحد مصادر الدخل للخزانة العثمانية، فمنذ دخول العثمانيين إلى مصر، وقد قرروا رسومًا محددة يتقاضاها القاضي في كتابة العقد، الأمر الذي لاقى الاستهجان من بعض المشايخ، وكان يتم تسجيل عقد الزواج مذيّلًا بتوقيع الشهود والقاضي".

ويؤكد أن دخول العثمانيين مصر قد أحدث بعض التغيرات المهمة في تاريخ مصر، ومن أهم هذه التغيرات كانت في مجال القضاء الشرعي، والذي صاحبته تغيرات في قضاء الأحوال الشخصية، بداية من جعل توثيق عقود الزواج، فقط أمام القضاة في المحاكم الشرعية، فلا يتزوج أحد من الناس ولا يطلق إلا في بيت القضاة الأربعة، وفرض رسوم للتوثيق؛ مما جعل علماء الأزهر يستاؤون من هذا الإجراء. 

تحديد التواصل الزوجي
وقد كان شهود عقود الزواج يختلفون من فئة إلى أخرى، فحرص الأعيان وأفراد الطبقة الثرية على أن يتخذوا شهودًا على زواجهم، من رجال الشرع أو ممن يساوونهم أو يعلونهم قدرًا اجتماعيًّا أو ماليًّا، كما حرص رجال الأوجاقات على اتخاذ الشهود من رجال الأوجاق نفسه، أو من رجالات الأوجاقات الأخرى، ويقوم الشهود بالتوقيع في نهاية وثيقة عقد الزواج. كما تشير وثائق الأحوال الشخصية إلى أن النصارَى واليهود، كانوا يلجأون إلى القاضي الشرعي في كل أحوالهم الشخصية بلا استثناء.

يوضح الباحث أن الزواج في مصر العثمانية كان يتم في سن صغيرة، فالبنت لا تزال قاصرة ولم تبلغ سن البلوغ ويتم تزويجها، ولكن لم يكن مسموحًا للزوج بأن يقترب جنسيًّا من زوجته إلا بعد وصولها إلى سن البلوغ؛ حتى تصبح قادرة على الإنجاب، وكان يتم الزواج بولاية الأب للقاصرة أو أقرب الأقارب لها، كما يمكن أن يكون سيدها وليًّا عليها في الزواج، أما إذا كانت الزوجة بالغة فهذا يستوجب وجود وكيلٍ عنها في الزواج، وكان هذا الوكيل هو الأب أو أقرب المقربين لها، وإذا لم يوجد أحد الأقارب حاضرًا للعقد فيكون القاضي وكيلًا عن الزوجة.

يضيف: "وفي بعض الزيجات كانت الزوجة وكيلة عن نفسها في الزواج. وكانت تختلف المهور من طبقة إلى أخرى، حسب الحالة الاجتماعية والمادية للزوج ووالد الزوجة، وكانت معظم عقود الزواج تحرص على حفظ حقوق الزوجة؛ بحيث تكتب في العقد شروط يلتزم بها الزوج، كألا يتزوج عليها زوجة أخرى، أو أن يوفر لها النفقة اللازمة لمصاريفها، وكذلك يلتزم بأن يقوم بكسوتها كلٍّ على حسب مقدرته المادية، وتوفير مسكن مناسب لها تعيش فيه. ومن أهم الشروط هو شرط عدم ضرب الزوجة ضربًا مبرحًا. وكانت تقام حفلات الزواج بعد تبادل القبول والرضا بين الخطيبين، والمدة التي تنقضي بين تحرير العقد وحفل الزفاف قصيرة جدًّا".

تقاليد الارتباط
ويشير الباحث إلى عادات الزواج، التي كان من بينها أن العروس كانت تخرج في الليلة السابقة للزواج في صحبة النساء ووجهاء المجتمع إلى بيت العريس، وكان الراقصون يحيطون بها من كل جانب، وحينما كانت العروس تقف مع عريسها تحت المظلة التي يقف اليهود دائمًا تحتها عند الزواج، كان العروس والعريس يرتديان ملابس بيضاء، وكان كلٌّ منهما يقف في مواجهة الآخر، وكان الجميع يرتل في تلك اللحظة بعض الصلوات الداعية إلى تكليل الزواج بالنجاح، ومع انتهاء هذه المراسم كانت العروس تتوجه إلى غرفتها، في حين أن العريس كان يقف لتحية المدعوين.

يتابع شارحًا: "كان من بين العادات القديمة التي استمرت حتى القرن التاسع عشر، أن الزواج كان يتم في حضور عشرة أفراد كان من بينهم الحاخام ومندوب المحكمة وكاتبها عادة، وكان دور الحاخام يتمثل في ترتيل الصلوات وفي إثبات أن الشهود صالحون للإدلاء بشهاداتهم، وكان الشهود يوقعون على وثيقة الزواج. ومن اللافت للنظر أن اليهود في مصر، وعلى خلاف ما جرى في سائر الأماكن، لم يعتادوا ترتيل الصلوات المصاحبة للزواج بصوت مرتفع. وكانت الفتيات غير اليهوديات يقمن بالغناء والرقص في احتفالات الزواج، غير أن ظاهرة الرقص اختفت من احتفالات الزواج منذ القرن السادس عشر، وحلت محلها منذ ذلك الحين ظاهرة قيام أبناء الطائفة بالإنشاد والرقص".

ويرصد بعض العادات الغريبة في حفلات الزفاف، حيث يرى أنه كانت هناك بعض العادات القبيحة في حفلات الزفاف والأفراح، حتى إنه وجب التحذير منها ووضع عقوبة على مرتكبها في قانون نامه مصر، فنجد مادة في القانون تقول: "وكانت هناك عادة قبيحة، وسنة سيئة فاضحة من آثار الزمن القديم، وهي أنه إذا أراد أحدهم إقامة عرس زفاف ابنته، أقام حفلًا ليليًّا يجمع فيه عددًا من الذعر (اللوندية) من كل طائفة، وتقوم العروس بتغيير ثيابها سبع مرات، وتخرج عليهم في سبع صور مختلفة، وسط الفجور والفسوق، ومختلف أنواع اللعب واللهو والرقص، ويقوم جميع أهل المجلس بإلصاق النقود عليها، وكل هذا ممنوع لمخالفته مقتضى الشرع المطهر، وينبغي منعه بعد ذلك منعا باتًّا.

غرامة رادعة
يكمل : "وإذا حدث بعد التنبيه، فليقبض رئيس الشرطة (الصوباشي) على والد العروس، وبعد تعزيره وبشدة والتشهير به، تؤخذ غرامة كبيرة من والد الفتاة ومن العريس، ولتقام الأفراح بعد ذلك من غير هذه العادات القبيحة.. كما كان من عادات الأهالي عند الإعداد للفرح، أن يزينوا الثور الذي يدير الطاحون الذي سوف يطحن فيه غلال الفرح، بتعليق منديلين في قرنيه، وأجراس في رقبته كنوع من الابتهاج بتلك العملية، كما كانوا يمرون على المنازل بالدف والمزمار؛ لجمع مخلفات المواشي (الجلة) التي يصنعون منها (المسكة) التي استخدمت كوقود في إشعال الأفران؛ لإنضاج خبز وكعك الفرح".

من العادات الغريبة أيضًا "جلوس العروس على جدار مرتفع وهي مغطاة الوجه، في الليلة التي تسبق الزفاف؛ حيث تتجمع حولها السيدات والرجال للغناء واللهو، وفي نهاية الليلة يخرج والدها الطعام للحضور، ثم يقومون بزف العروس، وتقوم السيدات بلصق القطع المعدنية من النقود على صدرها على سبيل النقوط. وكذلك من العادات الغريبة أن يُقام لدى العريس احتفال آخر، فيقوم أصدقاؤه بإعداد الحمّام الخاص به، ثم يقومون بتحميته، ويكون ذلك في حضور جمع من الرجال والسيدات، ويكون العريس مكشوف العورة أمامهم؛ لأنهم كانوا يعتبرون أن استتاره في مثل هذه المناسبة من الأشياء المعيبة في حقه".

الجمل بما حمل
يستطرد متابعًا: "وعندما ينتهي العريس من حمّامه، يتسابق الشباب في الاغتسال بعده، اعتقادًا منهم أن من فعل ذلك أولًا سوف يتزوج بعد ه مباشرة، ثم يقوم أهالي البلدة بدعوة العريس إلى ولائم يعدونها خصيصًا في كل حي من الأحياء على حدة، وعند زفافه يجتمعون حوله في موكب، وهم يقومون بالإنشاد. ومن عاداتهم القبيحة في الأفراح أيضًا أنه إذا قدم موكب العرس على منطقة فيها عربان، خرج هؤلاء لدعوة الموكب، فإن كانوا لا يضمرون شرًّا اكتفوا بتقديم الدعوة والترحيب والتهنئة وتلقي الشكر، وسار الموكب في سبيله، وإن كانوا يضمرون شرًّا لثأر قديم أو للحط من قدر أهل العرس أو للنهب، قدموا الدعوة وأصرّوا عليها، فإذا أصر أهل العرس على رفضها، تنشب بين الفريقين معركة، تنتهي أحيانًا بالاستيلاء على جمل العروس ومن فوقه".

انتهى البحث إلى نتيجة مهمة مؤداها أن الآباء المصريين كانوا حريصين على بناتهم؛ فإن كانوا قد زوّجوهن وهن في سن صغيرة، ولكن كانوا حريصين كل الحرص أن يتم هذا الزواج وبناتهم قادرات على تحمل المسؤوليات الشرعية للزواج.

ويلفت الباحث إلى أن المرأة كانت تتمتع بكامل حقوقها؛ كألا تتزوج إلا بموافقتها، فلا يتم إجبارها على الزواج، اللهم إلا إذا كانت قاصرًا بكرًا، فكان يتم تزويجها بولاية الإجبار، وكذلك حق المثول أمام القضاء الشرعي من دون وكيل عنها، فتحضر مجلس القضاء وتتسلم مهرها بيدها، أو أن تقوم بتزويج نفسها بنفسها من دون وكيل عنها، أو أن تأتي إلى القاضي، وتطلب مؤخر كسوتها، أو بقية نفقتها على زوجها، على عكس ما كان معروفًا عن وضع المرأة في العصر العثماني، على أنها كانت لا تخرج من البيت إلا للضرورة القصوى.

كسر العزلة
ويلاحظ أنه كانت تتم في الزواج مراعاة تكافؤ المكانة الاجتماعية بين الزوجين، فنجد أن الأعيان وأفراد الطبقة الثرية كانوا يحرصون على أن يتزوجوا ممن يساوونهم أو يعلونهم قدرًا اجتماعيًّا أو ماليًّا، وكذلك حرص رجال الأوجاقات على اتخاذ زوجات لهم ولأولادهم من أبناء الأوجاق، وكان ذلك في بداية العصر العثماني في مصر. 

لكن بعدما انصهر العنصر العثماني في الشعب المصري، بدأوا في الزواج والاختلاط بالمصريين، فتزوجوا من بنات التجار وكبار العلماء، وقد تفاوتت قيمة المهور أيضًا في مصر في العصر العثماني، على حسب المكانة الاجتماعية والمادية للأزواج والزوجات. 

عند كتابة عقد الزواج كان للمرأة الحق في وضع الشروط التي تناسبها؛ مثل عدم الزواج عليها ما دامت في ذمته، أو حتى عدم التسري بجارية من جواريه، أو حتى عدم إرجاع إحدى مطلقاته، أو ألا يمنعها من الخروج لزيارة أهلها، أو عدم ضربها ضربًا مبرحًا، أو أن تشترط على زوجها ألا ينقلها من منزلها، أو أن يوفر لها سكنًا مناسبًا يليق بمكانتها الاجتماعية، أو شرطًا لتوفير النفقة والكسوة اللازمة لها، أو توفير جارية لها لخدمتها، أو شرط ألا يمنعها من السفر لأداء فريضة الحج مع والدها إذا أرادت، مما يغير الفكرة التي كانت متخذة عن العصر العثماني، بأنه عصر ذكوري لم تمثل فيه المرأة أي دور في المجتمع.

ويخلص الباحث إلى أن الحكم العثماني حافظ على التقليد الإسلامي، بالحفاظ لأهل الذمة على كيانهم الديني الخاص، واحترام أحكامهم، فيما لا يضر بالنظام السائد في البلاد في الوقت نفسه، فقد كانت أحكام البابا تنفذ على رعاياه الذين يلجأون إليه، وكذلك الحاخام اليهودي، الذي كان له دور مماثل لدور البطريرك على رعاياه من اليهود، ولم تتدخل الدولة العثمانية في الفصل في قضايا الأحوال الشخصية لأهل الذمة، فقد كانت القضايا الزوجية من أهم اختصاصات البطريركية، بحكم أنها أمور دينية بالدرجة الأولى، ولكن إذا أراد أهل الذمة تسجيل عقد الزواج في أحد المحاكم الشرعية، وجب على القاضي أن يقوم بهذا التسجيل.

وبالرغم من أن الديانة المسيحية لا تعترف بالزواج الثاني، فإننا وجدنا بعض العقود التي تثبت تعدد الزوجات عند بعض الأقباط، وتسجيلها أمام المحاكم الشرعية، كنوع من التوثيق، على الرغم من عدم اعتراف الكنيسة بهذه الزيجات.