يقتفي المحامي الفرنسي - الإنكليزي فيليب ساندز أثر كلمة مهمة دخلت الشريعة القانونية، دارسًا حياة أولئك الذين أتوا بها إلى حيز الوجود وخبراتهم وزمن الحرب الذي عاشه أقاربه اليهود في أوروبا.&

إيلاف: في عام 1933، قال جوزف غوبلز في عصبة الأمم: "بيت الإنسان قلعته، لذلك سنتعامل مع الوضع بالطريقة التي نراها ملائمة مع خصومنا المختلفين، وعلى وجه الخصوص، اليهود".

عالم توحده الجرائم... وترثيه الإنسانية

في ذلك الوقت، كانت وجهة نظر غوبلز متشاركة عالميًا، ومهما بدا رأيه صادمًا ومكروهًا، ولا يمكن الدفاع عنه أخلاقيًا، فآنذاك، لم يجرؤ أحد على معارضته. وكانت كلمة السيادة (وهو مصطلح شوّش حق الإنسان في أن يقرر عن نفسه وحق الطغاة في أن يقرّروا عن شعوبهم) هي الكلمة الأولى والأخيرة في العلاقات الدولية.

إذا كان من غير الممكن اليوم قول الأمر نفسه، وإذا ما عاد الناس ينظرون إلى الحكام المستبدين، وكأنّهم يمتلكون القوة للتحكم بحياة أو موت رعاياهم، وإذا تم توجيه الإتهام إلى المجرمين المتمرّسين من كمبوديا والسودان ورواندا، وأحيانًا حتى معاقبتهم، وبالمختصر، إن كانت فكرة العدالة الدولية قد اكتسبت تدريجًا ما يشبه المعنى، فيعود الفضل في ذلك إلى فكرتين، أو بتعبير أدق، إلى مفهومين وإلى رجلين قاما بإحياء هذين المفهومين: هيرش لاوتر باخت، الذي أنشأ مفهوم الجريمة ضد الإنسانية، ورافائيل ليمكين، الذي أنشأ مفهوم الإبادة الجماعية.

حياة رجلين
فيليب ساندز، أستاذ القانون في جامعة لندن، يروي حياة وعمل كل من الرجلين في كتابه "شارع الشرق والغرب: في أصول الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية" East West Street: On the Origins of Genocide and Crimes Against Humanity (منشورات كنوبف، 448 صفحة، 32.50 دولارًا؛ منشورات ويدنفلد ونيكلسون، 20 جنيهًا إسترلينيًا).

يبدأ ساندز بالتمييز بين المفهومين. وعلى الرغم من أوجه التكامل بينهما، فهو يحرص على إظهار كيف أنهما يرتكزان إلى مفاهيم حقوق مختلفة، لا بل متعارضة: أحدهما متجذر في الحقوق الفردية، والآخر في حقوق الجماعات. أحدهما يتصدّر سُلّم الجرائم التي ارتكبت بحق الرجال والنساء على مستوى فردي، والآخر معنيّ بإبادة الشعب أو المجتمع الذي ينتمي إليه أولئك الأفراد.&

يستعرض الجزء الأكبر من كتاب ساندز قصتين لمفكرين يهوديين وُلدا في تلك الحقبة تقريبًا (1897 و1900) في البقعة المتنازع عليها نفسها من أوروبا الشرقية (والتي تشكّل الآن جزءًا من أوكرانيا وروسيا البيضاء). ولطالما دافع بطلا الكتاب من دون كلل أو ملل عن الحقوق التي ناضلا من أجلها طوال حياتهما، حتى النفس الأخير، لإنتاج فلسفة أدّت إلى محاكمات نورمبرغ، ثم بعد ذلك بعقود، إلى احتمال أن ليس كل السفاحين المسؤولين عن القتل الجماعي سيموتون قضاء وقدرًا.

عالم آثار
يتابع ساندز بأسلوب بعض مؤرخي العلوم الذين، خلال سردهم للاكتشاف، يبدأون بدعوة القارئ ليفهم حجم العواقب التي ينبغي التغلب عليها للتقدم. في هذه الحالة، ما شكّل العواقب كان خوف الدبلوماسيين الغربيين وجبنهم، والإحساس المسبق الذي راود السوفيات بأن القوانين الدولية الناشئة قد تنقلب عليهم يومًا ما، وكذلك، عدم تصوّر فكرة أن الفرد، في كل التقاليد القانونية، قد يمتلك حقوقًا يدافع عنها ضد الدولة.

لكنّ ساندز يكتب أيضًا بطريقة مؤلفي أفلام الرعب الذين، للتعبير عن دوافع شخصياتهم، يقدمون أدلّة ربما تبدو في بعض الأحيان تافهة مقارنة بغيرها من الأدلة التي توضح الأمور على الفور: اسم في دليل قديم، صورة باهتة، عنوان غير مقروء على قطعة من ورق، وصمت غير مفهوم، ولكن مستمر، وصفّ دراسي في المدينة البولندية، جدرانه تعكس صدى غضب طالب في كلية الحقوق (ليمكين) يتحدى أستاذه حول قضية شاب أرمني متهم بقتل أحد مرتكبي الإبادة الجماعية الأولى الحديثة؛ أو الوضع الروائي لأستاذ القانون (لاوترباخت) عند وصوله إلى نورمبرغ، مع اليقين بأن عائلته قد تعرّضت للإبادة من قبل الرجل عينه الذي أتى ليتهمه ويحاكمه.

بعد اكتشاف أن بطلي كتابه، ليمكين ولاوترباخت، قد عاشا ودرسا في مدينة لفيف، وحضرا المحاضرات التي يلقيها أستاذ القانون نفسه، جوليوش ماكارويكز، وبالتالي الاستنتاج بأن جميع مسارات التاريخ الذي يكتب عنه تقود مرة أخرى إلى غاليسيا نفسها، حيث كان الأحياء لمدة 70 عامًا محاطين بأشباح ذكرى موت مئات الآلاف من اليهود الذين تمت إبادتهم بدون وضعهم في أي مدافن، تحوّل ساندز إلى عالم آثار يحفر في أرض دامية.

ثمة شخصية أخرى
كشف ساندز عن أتلانتس من دون أي علامة أو نصب تذكاري: بقايا محطة قطار، البقعة الفارغة، حيث نُصِب سابقًا معبد يهودي، واجهة مهجورة، موقع سابق للجامعة، حيث صُقلت النقاشات التي من شأنها أن تمنع مجرمي الحرب النازيين يومًا ما من الوقوع مرة أخرى تحت الاستعمار البريطاني أو قتل الأميركيين من أصل أفريقي على يد أعضاء "كو كلوكس كلان"، وموقع مخيم جانوسكا، حيث تم فرز اليهود غير الصالحين لأعمال السخرة، قبل إرسالهم إلى معسكر الإبادة ببلزيك، وصورة أخرى، ودبلوم.&
مرارًا وتكرارًا، دمج ساندز تاريخ الجرائم مع الجهد العنيد الذي يبذله كلّ من ليمكين ولاوتر باخت لفهم نطاقها وتسميتها - جهدٌ يتخطى الطاقة البشرية تقريبًا، لأنهما كانا يعملان وكأن الجريمة نفسها تحصل.

هيرش لاوتر باخت، الذي أنشأ مفهوم الجريمة ضد الإنسانية، ورافائيل ليمكين، الذي أنشأ مفهوم الإبادة الجماعية

&

في تاريخ ساندز، كما في كل الروايات العظيمة، نحن نواجه شخصيات، على الرغم من أنها تبدو ثانوية، فهي ضرورية لحبكة الرواية. مثل هانز فرانك - راعي الفنون، والحاكم العام لبولندا المحتلة، مبتدع الجرائم ضد الإنسانية ومرتكب الإبادات الجماعية - وفي نهاية المطاف ستُسمع قضيته في نورمبرغ، حيث سيُحكم عليه بأقصى أشكال العقوبات.

شخصية أخرى من مجموعة ساندز، هي مراسل الحرب والروائي كورسيو مالابارتي، الذي يشاهد فرانك، يرفع كأس النبيذ الكريستالية البوهيمية قائلًا بدون تردد: "قد تشرب بلا خوف، عزيزي مالابارتي، هذا ليس دمًا يهوديًا". وشخصية ثالثة هي إلسي تيلني، أشرف الشريفات، البطلة الجليلة المتواضعة، التي قامت برحلة طويلة، غامضة ومحفوفة بالمخاطر لإنقاذ طفل يهودي.

قصّة بلا مثيل
في الوقت نفسه، كان ساندز يسير على خطى فنانين، مثل فيليبو ليبي، الذي حصر نفسه في رسم لوحتي Coronation of the Virgin ("تتويج العذراء") وThe Funeral of Saint Stephen (جنازة القديس ستيفن).&

تجدر الإشارة إلى أن جزءًا كبيرًا من الجمال الغريب، الذي يميّز هذا الكتاب، يقوم على حقيقة أن أصل الكاتب من مدينة لفيف. في الواقع، أن ليون بوتشولز، جدّ ساندز، قد تربطه قرابة بالشخصيتين الرئيستين في الكتاب. ويا للعاطفة التي نشعر بها عندما يدرك ساندز، الاختصاصي في القانون الدولي وحقوق الإنسان، أنه أيضًا يرتبط ببعض المحاكمات العظيمة في نهاية القرن العشرين التي شهدت فوز ليمكين ووترباكت بعد وفاتهما.

إذًا، كانت النتيجة قصّة، لم يسبق لها مثيل، يراقب خلالها القارئ حياة وعمل رجلين عاديين يحرّكهما شغف متواصل، ويكادان يفقدان عقلهما بسبب الأحزان والآمال التي ورثاها من الاضطرابات الناشئة في توقيت غير منطقي. لكنّ هذا الجنون بحد ذاته والتعطش إلى الحقيقة والعدالة يؤمّنان لهما الوصول إلى العالمية، ويمكّنانهما من وضع أحجار الأساس للعدالة الكوسموبوليتية التي انتظرها العالم منذ الفيلسوف كانت.

الإصلاح مستحيل
أخيرًا، إذا أخذنا بعين الاعتبار المبدأ القديم (مبدأ سبينوزا حاليًا) الذي يقول إن لا أحد يحسن استعمال أداة ما بقدر الذي يعرف أسرار صنعها، وبالتالي تاريخها، نرى أن كتاب ساندز "شارع الشرق والغرب" يحتوي على آلة للقوة والجمال، لا ينبغي أن يتجاهلها أي شخص، في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر، مؤمن بأن بعض الجرائم لا يمكن إصلاحها وينبغي ألا تتوقف أحكامها عند حدود أي دولة.

"لقد قرأت كتابك" هذا ما قاله الرئيس الـ44 للولايات المتحدة لسامانثا باور، وهي من أهم مستشاريه في ما يخص الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. يستحسن لباراك أوباما وخلفائه أن يضعوا في أعلى قائمة مطالعاتهم هذا الكتاب، الذي يتناول ولادة مجموعة غير مسبوقة من الحقوق القانونية، بالكاد بدأ تطبيقها، وسط أحلك الظلال التي يمكن تصورها.


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "نيويورك تايمز". الأصل منشور على الرابط الآتي:

https://www.nytimes.com/2016/05/29/books/review/east-west-street-by-philippe-sands.html?_r=0