إيلاف: كثيرًا ما يتأثر السياسيون بفكر الكتاب والمؤلفين، وغالبًا ما تنبع أفكار الكتاب من واقعهم، سياسيًا واجتماعيًا. في بريطانيا، أثرت الحرب العالمية الثانية وحوادثها على السياسيين والكتاب على حد سواء، منهم رئيس الوزراء ونستون تشرشل، والكاتب جورج أورويل. وعلى الرغم من أن أحدهما عاصر الآخر، فإن الرجلين لم يلتقيا البتة، لكن جمعتها قضية "المعركة من أجل الحرية".

يكشف كتاب صدر حديثًا، بعنوان "تشرشل وأورويل: المعركة من أجل الحرية" CHURCHILL AND ORWELL: The Fight for Freedom (يحتوي على 339 صفحة، مصور، منشورات بنغوين، 28 دولارًا) للصحافي الأميركي توماس ريكس، أن أورويل سعى من خلال كتاباته إلى خوض حرب من أجل حرية الفكر، في حين خاض تشرشل حربًا من أجل الحرية الفردية، في زمن كانت الأنظمة الشمولية والقوى الفاشية تسعى فيه إلى السيطرة على أوروبا.

الحرية قضيتهما

يقول توماس ريكس، الذي حاز كتابه "تشرشل وأورويل: المعركة من أجل الحرية" جائزة بوليتزر، إن الناس ما زالوا يفكرون في الأشخاص المهمين، ليس لفهم زمانهم فحسب، لكن لفهم زماننا أيضًا". يمكن القول إن ريكس اختار الحديث عن شخصيتين ما زال الحديث عنهما مستمرا. 

بين أورويل وتشرشل نضال وحرية

فرواية جورج أورويل "1984" عادت إلى الواجهة وحظيت بالاهتمام بعد تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إذ كانت أولى خطواته في البيت الأبيض استعادة التمثال النصفي لتشرشل إلى المكتب البيضاوي.

وعلى الرغم من تأثيرهما المتصاعد اليوم، لم يحظَ الرجلان بسمعة طيبة في ثلاثينيات القرن العشرين، فتشرشل كان منبوذًا سياسيًا، ولم يحظَ بدعم حزبه "حزب المحافظين" لأنه رفض استرضاء هتلر. اقترح فريدريك موغام، رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الوطنية آنذاك، أن يُعدم تشرشل رميًا بالرصاص أو يُشنق.

على غرار تشرشل، عندما كتب الاشتراكي أورويل مؤلفه "تحية كاتالونيا" (1938)، واجه اتهامات من اليسار واليمين على حد سواء خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وقوبل باستنكار الكثيرين من اليسار البريطاني. ورفض ناشره المعتاد، الشيوعي فيكتور غولانتز، إصدار الكتاب.

حرية الفكر
اشترك أورويل الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى وتشرشل الذي ينتمي إلى الأرستقراطيين في ازدرائهما الخيلاء التي كانت تسيطر على المجتمع البريطاني. يقول أورويل في عام 1943: "يصعب على زعيم شعبي في إنكلترا أن يكون شريفًا، لكن ذلك ليس صعبًا على تشرشل".

بعد اندلاع الحرب الثانية في عام 1939، جمعت تشرشل وأورويل قضية مشتركة: المعركة من أجل الحرية. بالنسبة إلى تشرشل، كانت هذه حربًا "لتأسيس حقوق الفرد وإحياء مكانة الإنسان". كذلك كانت بالنسبة إلى أورويل، "إذا كانت هذه الحرب بلا هدف، إلا حرية الفكر". وفي هذا الكفاح الذي يركز على الحرية الفردية سبيلًا للبقاء، يجد ريكس مكونات "قطعة الحلوى" التي من شأنها أن تمنح عمقًا وجاذبية لموضع كتابه.

لم تعد مصادفة أن يرحّب أورويل في عام 1940 برئاسة تشرشل للحكومة. فهو كان يرى في تشرشل منقذًا للأمة البريطانية، واعترف بذلك في الفترة التي كان فيها تشرشل يلقي خطبه لحث الشعب البريطاني على البطولة والتضحية.

أسلوب واحد
أشار ريكس إلى أن الحرب الثانية ألهمت تشرشل إلقاء الخطب وتحفيز الشعب البريطاني على الصمود، كما ألهمت أورويل الذي أنتج في عام 1940 وحده 100 مقالة صحافية.

بالنسبة إلى كل من تشرشل وأورويل، تحظى اللغة بأهمية كبرى. يقول ريكس إن في أثناء الحرب، أعطى تشرشل توجيهاته بشأن الإيجاز، وطلب من موظفيه كتابة فقرات "قصيرة وواضحة" وتجنب العبارات التي لا معنى لها. 

قال رئيس الوزراء: "معظم هذه العبارات المبهمة هي مجرد حشو ينبغي التخلي عنها تمامًا، أو الاستعاضة عنها بكلمة واحدة". يمكن لكل من يقرأ القواعد الأساسية الشهيرة في الكتابة لدى أورويل أن يكتشف نصيحته: "لا تستخدم أبدًا كلمة طويلة، حيث يمكنك استخدام كلمة أخرى قصيرة"، ما يعني أن الرجلين يفكران بالطريقة نفسها.

مصدر إلهام أورويل
إعجاب أورويل بتشرشل واضح بما فيه الكفاية. لا يتجلى ذلك في شخصية وينستون سميث، بطل رواية "1984"، الذي يشترك في الاسم مع تشرشل فحسب، لكن في آخر مقالة نشرها أورويل قبل وفاته في يناير 1950، أشاد فيها برئيس الوزراء السابق، "لا لشجاعته، بل للجاذبية والعظمة اللتين يحظى بهما، ولكتاباته التي كانت أشبه بكتابات إنسان أكثر من أنها كتابات شخصية عامة".

في الحقيقة، ربما لم يفكر تشرشل كثيرًا في أورويل حين كان الرجل على قيد الحياة. قرأ رواية "1984" أكثر من مرة، واعتبرها "رائعة"، وكذلك كان رأيه بكتاب "مزرعة الحيوان" المنشور في عام 1945، والذي أكسب أورويل شهرته. 

أثار الكاتب البريطاني - الأميركي لوغان بيرسال سميث صديقه القديم سيريل كونولي بعد قراءة "مزرعة الحيوان" بالقول إن أورويل جاء من حيث لا تدرون، "للتغلب على الكثير منكم". 

انتهت الحرب بفوز بريطانيا ومغادرة تشرشل منصبه. لكن عندما عاد إلى قصر الحكومة في 10 داونينغ ستريت في عام 1951، كان أورويل قد فارق الحياة.

أعمال فنية
في عام 2002، استخدم سيمون شاما طريقة فنية لتأطير الحلقة الأخيرة من مسلسله التلفزيوني "تاريخ بريطانيا"، وعمد إلى توظيف تشرشل وأورويل لإصدار بيان شديد اللهجة في شأن العلاقة بين التقليد والتطرف على مر العصور.

بالنسبة إلى ريكس، فكان يرى أن حرية التفكير هي أساس العلاقة بينه وبين القراء. فهو لا يحاول إجبار القراء على التزام أفكاره، ولا يفرض عليهم تناقضاته، لكن ما يثير الاستمتاع في كتاب ريكس هو تركيزه على التزام أورويل وتشرشل الفكر النقدي. فهما لم يتبعا الحشود، بل تعامل كل منهما مع شعبيته على طريقته. ورفض كل منهما الشك والارتياب.

يخلص ريكس إلى أن استقلالهما الذي لا يتزعزع يضعهما في "خط طويل، لكن مباشر من أرسطو وأرخميدس، وصولُا إلى لوك وهيوم وميل وداروين. ومن خلال تناول شخصية أورويل وتشرشل يمكن القول إن الواقع الموضوعي موجود، فيمكن الناس ذوو النوايا الحسنة أن يدركوا ذلك. أما الآخرون فسيغيرون وجهات نظرهم عندما يُدركون حقيقة القضية".


أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "نيويورك تايمز". الأصل منشور على الرابط:
https://www.nytimes.com/2017/05/23/books/review/churchill-and-orwell-thomas-e-ricks.html?emc=edit_bk_20170609&nl=book-review&nlid=78827822&te=1&_r=0