«إيلاف» من الرباط: في روايته الجديدة، الصادرة حديثاً، عن" دار النشر المغربية"، والمعنونة بـ"الطاحونة" يسترجع الإعلامي المغربي، محمد البريني، صفحات من دهاليز الصحافة الحزبية، بأسلوبه الرشيق، وذهنه المتيقظ الذي مازال يسترجع الجزئيات والتفاصيل، وهو الذي شغل من قبل منصب مدير نشر جريدة الاتحاد الاشتراكي في عقد الثمانينات من القرن الماضي ، قبل أن يؤسس فيما بعد، يومية "الأحداث المغربية".

القارئ الذي يتصفح هذا العمل الروائي الجديد لمحمد البريني على مدى 269 صفحة من الحجم المتوسط، يكتشف منذ السطور الأولى أنه يحكي فصولاً من تجربته الخاصة، الواسعة والغنية، على رأس إدارة صحيفة حزب الاتحاد الاشتراكي، من خلال العودة إلى الدفاتر القديمة، للنبش بين صفحاتها، وإعادة قراءتها من جديد، بعد أن تركت بصماتها في أعماقه.

شخصيات معروفة

ورغم أنه لا يسمي أبطال روايته الجديدة بأسمائهم الشخصية المعروفة، مكتفيًا بالتلميحات، ويبتكر لهم ألقاباً خاصة من عنده، فإن أي متتبع لتطورات المشهد السياسي والحزبي والنقابي، لن يبذل أي جهد لمعرفتهم، نظرًا للصفات المعروفة عنهم، عبر الممارسة السياسية والنقابية، التي ترسخت في ذاكرة الرأي الوطني.

فمن يكون "الحكيم بناصر"، الذي حوكم بسبب الاستفتاء في قضية الصحراء، وتم نفيه " هو ورفاقه إلى بلدة بعيدة، معزولة بين جبال الأطلس"، غير الراحل عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟

ومن يكون بوشعيب الواعر، الشخص النقابي العتيد، الذي "يتوفر على شعب خاص به، يحبه حباً لا حدود له، متحفز لتلبية دعوته قصد القيام بأي عمل مهما صعب"، في فترة ساد فيها "شعار يجلجل في اللقاءات العمومية والتجمعات والمسيرات الجماهيرية، دون أن يحاول أحد إلغاءه أو منعه، أو حتى انتقاده، شعار يقول :" السي بوشعيب عندو شعبو..موت، موت آلعدو"؟..

لايحتاج هذا السؤال للجواب، خاصة عندما يتوسع الراوي في رسم ملامح بوشعيب الواعر، "بهندامه المهمل، وبلباسه الذي يغيب عنه التناسق، فقد يحدث أن يرتدي لباسًا مكوناً من ربطة عنق متكمشة، وسترة متجعدة، وسروال جينز، ويضع في رجليه صنادل بالية أو حذاء رياضيًا".

الإعلامي المغربي محمد البريني

محطة مفصلية

ينفتح الأفق الزمني للرواية في البداية عن انغماس البطل السارد سفيان اليحياوي، صحبة بعض رفاقه في الإعداد لإصدار صحيفة حزبية جديدة، في وقت كان فيه المغرب يتأهب للخروج من مرحلة، ودخول مرحلة أخرى، قوامها القطع مع الماضي بكل انكساراته وصراعاته، والتطلع لمستقبل جديد يحبل بالأمل لبناء أسس جديدة برسم الغد.

يحكي السارد عن تلك المحطة المفصلية في تاريخ المغرب، وهو يتأهب لإصدار جريدة التنظيم الحزبي:" كل شيء كان يوحي بأن المراقبة الأمنية قد توقفت، حتى الظروف في البلاد تغيرت بعض الشيء، وبدأ الانفراج يلوح شيئًا فشيئًا في حياتها السياسية: استعاد عدد من أصدقاء سفيان حريتهم بعد قضاء أشهر رهن الاعتقال، وغادر السجون العديد من المواطنين الذين جرفتهم حملة الاعتقالات العشوائية التي قامت بها السلطات على إثر احتجاجات شعبية عارمة شهدتها البلاد".

وسط هذه الأجواء، انطلق المشروع الإعلامي للتنظيم الحزبي، بعد منع الجريدة السابقة، ولم يكن المسار سهلاً، بالنسبة لسفيان اليحياوي، فلقد كانت هناك تحديات وصراعات سرعان ما انتصبت في وجهه، ظل يواجهها بالمزيد من الصبر والتضحية،" والتخلي عن حريته الشخصية"، والتفرغ التام للجريدة، متخليًا عن واجباته العائلية، وعن "الحق في أوقات محددة للعمل، والحق حتى في المرض".

الصحيفة/ الطاحونة

وبفضل جهوده المكثفة إلى جانب أعضاء طاقمه الصحافي، فرضت الصحيفة نفسها في الحقل الإعلامي، بما كانت تنشره من ملاحق وصفحات،" باتت آنذاك تميزها"، و"تجعل من التنوع أساس نشاطها"، وكان يسميها العاملون فيها "الطاحونة"، ومن هذا الاسم استلهم البريني عنوان روايته.

والنتيجة أن الجريدة أثارت من خلال بعض الملاحق والصفحات التي تحطم الطابوهات والقناعات الراسخة، ردود فعل من طرف التيارات والحركات الدينية المتحجرة.

لكن ما أثار استغراب واندهاش طاقم الجريدة، حسب سفيان اليحياوي، هو غضب بعض التنظيمات التابعة للتنظيم الحزبي من ما أسموه "عدم احترام جريدتنا لهويتنا وثقافتنا وأخلاقنا العائلية المحافظة."

ثم يعلق متسائلاً بألم وحسرة: "تنظيمات حزبية، تابعة لحزب حداثي وتقدمي، يدعو إلى الحرية والتغيير تلصق بجريدتها الأوصاف التي ترميها بها الحركات والتيارات الدينية والمتزمتة والماضوية؟ أليس هذا منتهى التناقض؟"

الفقيد عبد الرحيم بوعبيد زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

من معركة إلى أخرى

ولعل هذا ما عبر عنه بالقول في الرواية:" لعل من أقسى حالات العجز التي يمكن أن تعتري المرء في حياته، هي إحساسه بأنه مستهدف لعداوة، أو لخطر، أو لمكروه، في حين يكون هو جاهلاً جهلاً تاماً سبب استهدافه، وبالتالي يعدم القدرة على الدفاع عن نفسه، ويكون العجز أكثر إيلاما لما تكون الجهة التي تستهدفه هي رفاقه أو أصدقاؤه، أو رؤساؤه، ثم يصبح العجز أشد تعذيبًا للنفس حين لا يعلم الم

ستهدف من أين ستأتيه الضربة، أو كيف سيتصرف مع من يستهدفه، وحين لا يدري شيئا عن الخطة التي سينفذ بها المتربص به نواياه، كل ما يدركه هو النظرات الشزراء التي توجه إليه، والحركات العدوانية التي يلمسها".

هكذا إذن، يتصاعد بناء الأحداث في هذا العمل الروائي الذي يستعيد فصولاً لاشك أن السارد عاشها، وتجرع مرارتها، ضمن "الحالات النفسية الكثيرة والصعبة"، التي عانى منها، "طيلة مسار لم تتوقف خلاله المعارك، فما أن ينتهي من معركة حتى تفرض معركة جديدة نفسها عليه"، حسب تعبيره.

ويورد نموذجًا على ذلك:" لما كان، على سبيل المثال، يصارع أزمة تدهور مبيعات جريدته وإعراض القراء عنها، في مناخ سياسي متوتر، تجبرت فيه السلطة، وأعدمت حرية التعبير والرأي، كان عليه، في ذات الوقت، مقاومة ضغوطات من داخل تنظيمات حزبه، كانت ترى في كل تغيير يمس الجريدة تنكرًا لإرث حزبها التاريخي ولتقاليده الثورية، علاوة على ذلك، كان يصطدم أيضا بنرجسية وغرور بعض القيادات التي كانت تعتبر أن خدمة صورتها وسلطتها هي أولوية الأولويات، وبعد رحيل الحكيم بناصر الزعيم الكاريزمي والمدافع عن التغيير والتحديث تسارعت حركة (الطاحونة)".

وهذه ليست هي أول رواية للبريني، تدور حول الصحافة والسياسة، فقد أصدر من قبل، بالعربية رواية "المحاكمة" سنة 1997، و"قصص من زمان الرقابة" سنة 2016، علاوة على أعمال سردية أخرى باللغة الفرنسية.