لماذا يحترب بنو البشر؟... هذا سؤال قديم قدم الإنسان نفسه، وقد ناقشه باحثون عديدون، وحاولوا صياغة إجابات معقولة ومنطقية له، ولا يزالون. واليوم يصدر كتاب آخر محاولًا عرض إجابة معقولة، ويؤكد أن المسار نحو السلام أكيد وثابت، لكنه يحذر أيضًا من تحديات قد تبدل وجهة سير المجتمعات في مستقبل ليس ببعيد.

إيلاف: يعتقد البعض أن أحد الأسباب التي تدفع البشر إلى شن حروب في ما بينهم قد تكمن في تكوين الحمض النووي البشري نفسه فيما يضيف آخرون أسبابًا أخرى، ويرون أن بناء حضارة، أي حضارة، يحتاج ممارسة أعمال قتل وتدمير وإعادة بناء.

أسئلة متراكمة
لكن كل هذه الفرضيات تجد من يدحضها ويستبدلها بأخرى، وهو ما يعني أن تبقى الأسئلة مطروحة، وأن تضاف إليها تساؤلات أخرى، مثل: ما الذي يميّز الحرب عن أشكال أخرى من العنف البشري؟، وهل يكتفي البشر بمحاربة المقابل المختلف أم إنه يحارب الداخلي المشابه أيضًا؟، ولماذا؟، وهل ستتوقف الحروب في أحد الأيام؟ ومتى؟ وبأي شروط؟.

الحروب تراجعت بعد ظهور "سلام الديمقراطية والرأسمالية"

حاول البروفسور آزار غات الرد على كل هذه الأسئلة في كتابه الجديد "أسباب الحرب وانتشار السلام: ولكن هل ستنتعش الحروب؟"، ?The Causes of War and the Spread of Peace: But Will War Rebound (من إصدارات جامعة أوكسفورد، ويقع في 320 صفحة، بسعر 25 جنيه إسترليني).

يجمع الكاتب في مؤلفه مختلف وجهات النظر والفرضيات والنظريات التي صاغها الباحثون والمؤرخون والفلاسفة وعلماء الإجتماع وأساتذة العلوم السياسية والمتخصصون في التاريخ العسكري وغيرهم على مدى تاريخ حضارتنا الحالية بشأن الحروب وأسبابها والعوامل المؤثرة فيها، ليعطينا بذلك صورة متكاملة تقريبًا عن كل الأفكار المتعلقة بالحرب وبالسلام.

يقسم الكاتب مؤلفه إلى قسمين، يطرح في الأول تعريف مفهوم الحرب وأصلها وأسبابها ومدى اختلافها عن أشكال العنف الأخرى التي يمارسها البشر، فيما يخصص القسم الثاني لمناقشة أسباب ما يعتقد أنه تراجع في استخدام الحرب، باعتبارها وسيلة لحل المشاكل في عصرنا الحالي.

صراع البقاء
يعتقد الكاتب أن الإنسان مارس الحرب منذ فترة ما قبل التاريخ، ومنذ أن كان يعتمد في طعامه على قطف الثمار وصيد الحيوانات، وهو ما جعل حياة أجدادنا الأوائل قصيرة للغاية وعنيفة جدًا، حيث كانت الأسرة أو القبيلة الواحدة تفقد عددًا كبيرًا من أفرادها في كل سنة. مع ذلك من الصعب الاعتماد على التنقيبات الأثرية وحدها لمعرفة إن كان هؤلاء قد ماتوا بسبب حروب مع قبائل أخرى أم بسبب صراعات حدثت داخل القبيلة نفسها.

يعرج الكاتب على تأثير اكتشاف الزراعة وترويض الحيوانات على طريقة تصرف المجتمعات أحدها إزاء الآخر، حيث قلل الاستقرار لجوء الإنسان إلى القتال المرتجل والمتكرر، فيما زاد من اهتمامه بالأماكن التي يتواجد فيها، وهو ما أدى إلى ظهور حضارات متميزة وثابتة، مثل حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل، رغم أن ذلك لا يعني على الإطلاق تخلي البشر عن الحروب وعن القتال على مدى تاريخهم اللاحق.

يواصل الكاتب عرضه التفصيلي لتاريخ الحروب اعتمادًا على مسوحات مفصلة ونظريات مختلفة طرحها أكاديميون ومتخصصون وباحثون عن الكيفية التي تطورت بها الحرب كمفهوم وكوسيلة، ليعرض بذلك صورة واسعة متماسكة ومتكاملة تقريبًا للحرب باعتبارها سلوكًا اجتماعيًا بشريًا.

سلام الثورة الصناعية
يرى الكاتب أن الإنسان كان يلجأ على مدى تاريخه إلى السلام أحيانًا، وإلى الحرب أحيانًا أخرى، كوسيلة لتحقيق رغبات معينة حسب متطلبات الحاجة وضرورات تطوره البشري، لكنه يؤكد أن استخدام وسيلة الحرب تراجع بشكل كبير منذ بدايات القرن التاسع عشر، مع ظهور الثورة الصناعية، رغم وقوع حربين عالميتين دمويتين في القرن العشرين، وهو يعتمد في دعم فكرته هذه على عوامل اجتماعية واقتصادية، وحتى نفسية، جعلت من الحرب، حسب رأيه، مجرد وسيلة ثانوية جدًا لحل المشاكل الدولية.

ويرى الكاتب أن الحرب تراجعت بعد ظهور ما يسميه "سلام الديمقراطية" أو "سلام الرأسمالية"، باعتبارهما وسائل قادرة على تحقيق مكاسب، ما عادت الحروب قادرة على تحقيقها، حتى إن الحروب اختفت اليوم في أكثر المناطق تحضرًا وتطورًا وتقدمًا في العالم، حسب الباحث، الذي ذكر بقول أحد المدافعين عن العولمة، وهو توماس فريدمان، في عام 1996: "لم يحدث أن احترب بلدان فيهما مطاعم ماكدونالد للأكلات السريعة على الإطلاق".

التطور غاية
لكن غات يعرج أيضًا على تحديات تواجه سلام الحاضر، كما سبق وأن قضت على سلام القرن العشرين، من خلال قيام حربين عالميتين، أسقطتا الملايين من الضحايا، رغم أنه يعتبر أن هاتين الحربين وقعتا بسبب حاجة المجتمعات إلى التطور.

يسمّي الكاتب هذه التحديات الحديثة بالصين وروسيا، اللتين تمثلان حسب رأيه "عصرنة بديلة" و"تطورًا مختلفًا" غير تقليدي، إضافة إلى ظهور مجتمعات معادية للحداثة الحالية، كما هي معروفة في الغرب، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط.

ماض متجدد
ويناقش نقاد كتاب غات بالقول إن الاعتقاد بأن الحروب أصبحت مجرد شيء من الماضي ليس صحيحًا بالمرة، إذ ها هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي وعد في أحد الأيام بألا تتدخل بلاده في شؤون وصراعات خارجية يطلق صواريخ توماهوكس في سوريا، ويرسل حاملة طائرات إلى منطقة شبه الجزيرة الكورية، فيما تشهد منطقة بحر جنوب الصين تسارعًا في سباق التسلح. ثم إن الحروب الحديثة ليست من الماضي تمامًا، مثل حربي البوسنة وكوسوفو، ناهيك عن حروب أفغانستان والعراق وسوريا.

ويرى نقاد أيضًا أننا نقف اليوم على عتبة عصر جديد على صعيد الحروب والاقتتال بين البشر، لأن الأمر لا يقتصر فقط على نوع العلاقات الاجتماعية القائمة بين المتحاربين، بل على وسائل خوض الحرب نفسها، ونعني بذلك تطور التكنولوجيا، حتى إن عسكريين يقومون من أماكن تواجدهم في مدنهم الآمنة مثلًا بتوجيه صواريخ وطائرات مسيّرة في قارات أخرى، وهو ما يغير مفهوم الحرب نفسها، ويدفع هؤلاء النقاد إلى القول إن الحديث عن أسباب ودوافع حروب الماضي لن ينفع كثيرًا في فهم أسباب ودوافع حروب المستقبل.

أعدت «إيلاف» هذا التقرير بتصرف نقلًا عن «نيويورك جورنال أوف بوكس». المادة الأصلية منشورة على الرابط:

http://www.nyjournalofbooks.com/book-review/causes-war