ساهم الأدب والكتابة في بروز حضارات ودول أو في سقوطها، فظهرت الأفكار الفلسفية والسياسية المهمة ووُلدت المعتقدات الدينية. واستطاعت النصوص والأدب أن تمسّ حياة أجيال كاملة، وغيرت مجرى التاريخ. &

إيلاف: الكتابة والحروف والكلمات هي ما يميّز البشر عن بقية الكائنات الأرضية الحية، فمنها نتج الأدب، وحُفظت بها الحكايات الشعبية المتوارثة سمعيًا وشفهيًا، ووُضعت أفكار ونظريات، وتم تأليف ملاحم، وسُرد التاريخ، وعبّر الآلاف عن أفكارهم ومشاعرهم، ورووا قصصهم، وفندوا آراء بعضهم أو أيّدوها … الخ.

قصة الكتابة وتأثيراتها على عالمنا يرويها لنا مارتن بوشنر، وهو فيلسوف وناقد أدبي وأستاذ في الأدب الإنكليزي والمقارن، في جامعة هارفارد، في كتاب يحمل عنوان "العالم المكتوب"، وهو يقودنا فيه إلى رحلة جميلة عبر الزمن والتاريخ في كل مكان من العالم تقريبًا، شارحًا الدور المهم الذي أدّته القصص والحكايات والأدب في صنع عالمنا الحاضر.

16 نصًا
اختار الكاتب 16 نصًا رئيسًا تركت أثرها على البشرية، ووجّهت مجرى التاريخ على مدى أربعة آلاف عام مضت، ليظهر كيف ساهم الأدب والكتابة في بروز حضارات ودول أو في سقوطها، وكيف ظهرت الأفكار الفلسفية والسياسية المهمة أو وُلدت المعتقدات الدينية. وبالفعل نكتشف أن النصوص والأدب مسّت حياة أجيال كاملة، وغيرت مجرى التاريخ. &

من هذه النصوص ملحمة غلغامش وتوراة عزرا الكاتب وتعاليم بوذا وكونفشيوس وسقراط والمسيح، إضافة إلى أول قصة في الأدب العالمي، وهي "حكاية جنجي" التي كتبتها امرأة يابانية غامضة تعرف باسم موراساكي.&

يزور الكاتب بغداد أيضًا، ويروي قصة شهرزاد وحكايات ألف ليلة وليلة، ثم يسافر إلى العالم الجديد، بشقيه الشمالي والجنوبي، ويشخّص ملحمة بوبول فوه، التي تضم مجموعة أساطير تاريخية لشعب المايا، ثم يجاري سرفانتيس، الذي اخترع الرواية الحديثة في حروبه الحقيقية والخيالية مع القراصنة، ثم خلال دفاعه عن نفسه في مواجهة شخص سمّى نفسه ألونسو فرنانديز دي أفيلاندينا، وقام بنشر تكملة لرواية دون كيشوت، وهو ما اضطر الروائي إلى الإسراع في إنجاز تكملته الخاصة لسحب البساط من تحت قدمي المدعي.&

يحرص بوشنر أيضًا على متابعة الإلياذة، ثم غوته في صقلية، وتأثيرات بيان الحزب الشيوعي الذي أصدره كارل ماركس، ثم يتوقف أمام عظات مارتن لوثر، الذي انتقد الكنيسة، ويصحبنا في رحلة إلى طروادة، ثم إلى الصين، ويتحدث عن ديريك والكوت، أديب البحر الكاريبي الحائز جائزة نوبل للآداب في عام 1992، وعن أورهان باموك في إسطنبول، الحائز نوبل للآداب أيضًا لعام 2006، وعن ملحمة سانجاتا في غرب أفريقيا.

أربعة آلاف عام
يروي الكاتب تاريخ أربعة آلاف عام في حوالى 400 صفحة، ويبدا بالفينيقيين، الذين اخترعوا أول أبجدية قبل الانتقال إلى أرض الرافدين، حيث بدأت الكتابة الحقيقية على مواد طينية لا تزال تثير الدهشة والتعجب حتى الْيَوْمَ. وكان ذلك في 3500 قبل الميلاد.&

ثم جاء الصينيون الذين صنعوا الورق من أوراق شجر التوت، وكتبوا عليه، وكان هذا الاختراع يمثل أعجوبة، إلى درجة أن العرب، عندما علموا بهذه التقنية، التي وصلت أخبارها إلى أسماعهم على ظهر قوافل طريق الحرير عن وجود رقائق ملساء يمكن استخدام الريشة عليها بكل بساطة ومن دون مصاعب، قاموا في القرن الثامن للميلاد بأسر عدد من صناع الورق الصينيين وأجبروهم على الكشف عن سر المهنة، وهو ما حوّل بغداد إلى مركز لإنتاج الكتب والورق. وكان الفارق الوحيد هو أن العرب استخدموا القماش، وليس أوراق شجر التوت.&

غوتنبرغ
بمرور الزمن انتقلت الفكرة إلى أوروبا، حيث طوّرها يوهانس غوتنبرغ في القرن الخامس عشر، بالاعتماد على تقنيات الشرق التي انتقلت عن طريق القسطنطينية. وكان الصينيون في ذلك الوقت يطبعون باستخدام تقنية تقوم على رصّ قطع خشبية فيها حروف أو كلمات، ويبدو أنه طوّرها، حسب قول الكاتب، من خلال استخدام معصرة نبيذ، وضع داخلها ورقة رطبة مصنوعة من قماش بطريقة العرب، وليس من أوراق شجرة التوت بطريقة الصينيين.

بعد أقل من قرن تقريبًا تطورت هذه التقنية بدرجة كبيرة، حتى يقال إن المطابع كانت قادرة على إنتاج عظات مارتن لوثر، مؤسس المذهب البروتستانتي، بسرعة تفوق السرعة التي كانت الكنيسة الكاثوليكية ترمي بها كتبه في النار. وتذكر المصادر أن كتب لوثر كانت تحتل مركز الصدارة في مطبوعات زمنه، وكانت تمثل ثلثها.

كانت هذه السرعة وهذه الكفاءة هما ما دفع سيرفانتيس إلى نشر تتمة لرواية دون كيشوت في عام 1614، لعلمه أن الطباعة قد تجعل من المدعي متساويًا معه.

خلاصة هذا الكتاب هي أن الكاتب يرى أن الكتابة بأساليبها وتقنياتها المختلفة كانت أهم اختراع للإنسان على الإطلاق، لأنها صنعت التاريخ، ثم خزنته، وحافظت عليه.&

أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "سكوتسمان". الأصل منشور على الرابط&
https://www.scotsman.com/lifestyle/culture/books/book-review-the-written-world-how-literature-shaped-history-by-martin-puchner-1-4639841