صدرت للكاتب والشاعر العراقي منذر عبد الحر روايته التي تحمل عنوان (غناء سري) في طبعتها الثانية عن منشورات احمد المالكي للنشر والتوزيع ببغداد ،وهي الرواية الثالثة والكتاب الثالث عشر ضمن مسيرته شاعرا وروائيا .
تقع الرواية في 315 صفحة من القطع المتوسط ، وتتضمن 47 فصلا وهوامش للتعريف بكلمات ومصطلحات لا يعرفها الا ابناء تلك المنطقة التي تدور فيها الاحداث والتي اغلبها منطقة الاهوار حنوبي العراق، فيها اهداء :(الى ..شامة الفرات.. الواقعة في قضاء المدينة.. شمال البصرة قريتي العزيزة (الخاص) حيث شهدت ضحكتي الاولى وبكائي الاول والى عشيرتي (ال لو عوض) والى الليالي السابحة في سماء الغناء السري والى وجع الجنوب وطيبته الفادحة)،وافتتحها بقصيدة للشاعر الانكليزي (ايدموند حارليس بلوندن) بعنوان (الاجداد) ترجمة الدكتور ماجد حيدر، يقول مطلعها (من هنا مروا..،ثياب العمل على اجسادهم ، والمحاجن بايديهم) ، فيما حفل الغلاف الاخير بكلمة للناشر يوضح ان (في الرواية انتقالات فنية متقنة في الزمن تستدعي قارئا يستطيع الامساك بها والتعامل معها ، ورغم ان جميع شخصيات الرواية هي غير حقيقية ومن نسج خيال المؤلف الا انها قريبة من الواقع لانها ارتبطت بتاريخ الحدث وطبيعة الشخصيات معه ، انها نسمات حب مختلف وعلاقات انسانية نبيلة وصراع سري ينطلق اغنيات) .
تتحدث الرواية بصيغة المتكلم عن (الاستاذ الدكتور صادق محمد عوض استاذ النحو في قسم اللغة العربية في كلية الاداب جامعة بغداد) البالغ من العمر ستين عاما ،الرواية تجري على لسانه، يفتتحها بـ (وجهك،اعادني بملامحه التي حفرت في اعماق روحي، الى لثغة الحب الاول، يوم كانت الدنيا تتردد على شفاهنا بحلم آيل للزوال) ثم يعاود (وجهك، بعينيه الصغيرتين وهدوئه الدافيء والحنطة التي تهتف فيه،جذبني بقوة الى طفولة سابحة على ترقب مضن لاباء تنفرط في خطواتهم لذائذ الحياة) ثم يعاود مرة اخرى (وجهك،كسر في داخلي شيئا وحفز ذاكرة كاملة بكل تفاصيلها لتحضر امامي بقوة ملخصة لي حياة كاملة) ، هذا هو الاستاذ وتلك هي الطالبة الشابة (سحر) التي تدخل الى قاعة المحاضرات في درسه فيتوقف كل شيء عنده لانها تحمل كل ما حملته حبيته الاولى التي اسمها (مها) ،لتنهض كل ذكرياته منتفضة فلا يمر على اسانه سوى اسم (مها) يحادثها في كل الامكنة ويشير الى حضورها في كل الازمنة ،حيث يمشي باحداث الرواية بصحبة خيال حبيبيته من اول الطفولة الى وقتنا الحاضر ، حيث تتخذ الرواية مسارين ،الاول: يومياته التي يعيشها وهو استاذ جامعي ،والثاني : استرجاعاته للاحداث التي مرت في حياته قبل هذا الواقع وشغفه بحبيبته التي تحضر في كل مناسبة وصولا الى
(سحر) الطالبة التي تشبه حبيبته والتي كانت على علاقة حب مع زميلها (عادل) الشاعر الذي ارتبط بعلاقة طيبة مع استاذه،فتنهمر انثيالات عاطفية كبيرة حيث يعيش معها قصة الحب هذه التي تنتهي بالفراق ايضا ، وحيث يباغته عادل بسؤال : (لو كنت في محلي ماذا كنت ستفعل يا استاذ؟) !!.
فصول الرواية كلها تبدأ بـ(مها) التي يطلق عليها صفات عديدة منها: (مها.. ايتها الحلم المنسوج في دمي حقيقة تسري مع كل نبضة) ، (مها .. تبتها الطفلة الجميلة،ملامحك محنطة في قلبي،وسماتك لوحة رسمها ذهني وحملتها معي متنقلا بين محطات حياتي) ، (مها يا حقل الدهشة المثمر قلقا ومفاجآت ولوعة) ، حيث تضم كل تلك الحكايات اناته واهاته وخيباته ونداءاته وغناءه السري .
لكن الكاتب وان يعلن في النهاية: (لا اثر لعادل .. ولا اخبار عن سحر)، فهو يؤكد (تداعت الصور وبهتت الاشياء) وهو يذهب الى بيته ويتأمل في شؤون حياته الماضيات ، لكنه لا يجد الا ان يذكر اسمها (مها..) ومن ثم يختتم روايته بمشهد سينمائي يبدأه بالخروج من البيت والتطواف في ارجاء من بغداد والمرور على ابرز علامات شارع الرشيد ومن ثم (سأصل الى نهر دجلة المعاق) ثم (اكتب رسالة قصيرة واصنع من ورقها زورقا صغيرا،اضعه على موجة متهادية حزينة تسير الى جنوب القلب) ومن ثم (سأعود الى بيتي..) الى ان يقول (سأتحدث لهما عن طالب وسيم عندي يكتب الشعر، احب زميلة له اسمها سحر عبد الحميد ،هاجرت زميلته مع اهلها بسبب اوضاع مدينتها،واختفى هو لسبب مجهول، وربما بسبب خراب البلاد ....).
في الرواية .. اكثر ما يجذب هو اللغة التي كتب بها الكاتب تفاصيل حياة روايته فتتصاعد صادحة باحاسيس جياشة، لغة شعرية شفافة ترسم التفاصيل بالالوان الساحرة ،تنقل القاريء الى تأمل الصور المرسومة على الورق ويراها مشاهد سينمائية معززة بالموسيقى التصويرية التي هي في الاغلب نبضات قلب وغناء سري يلهج به على مديات الرواية ،لغة من غير الممكن ان يتخطاها القاريء ولا يمكن الا ان يشعر بطلاوة المفردات التي كأن الكاتب اختارها بعناية وكأنه يكتب نصوصا فنية مكثفة .