&بقلم خالد الحلّي
&
&& &في حياة كلّ الناس صدف، تركت آثارا مفرحة أو محزنة لا يمكن أن تنسى، وبينها صدف غيّرت مسار حياة أناس كثيرين. وإذا كانت الصدف تعبر عن نفسها بحدوث ما لم يكن متوقعاً، فإن كثيرا من ذلك قد حدث للدكتور العراقي رعد الحلي الذي يحمل شهادة تخصص في طب الأطفال، عندما وجد نفسه وهو في الخامسة والثلاثين من العمر طبيبا وحيدا في قرية يبلغ عمر أصغر سكانها 82 سنة. ومن هنا جاء كتابه الذي حمل عنوان "بالصدفة ... تجارب طبيب عراقي في قرى اوروبية".
&& &يعبر المؤلف في مقدمته لهذا الكتاب الصادر بـ 397 صفحة من القطع الوسط عن دار سطور للنشر في بغداد، عن قناعته بأن الصدفة فرصة يتيمة لا تتكرر ابداً، وبأن حياة الانسان يمكن أن تشهد منعطفات حاسمة كثيرة تحصل له بمحض الصدفة، مذكّرا قراءه باكتشاف نيوتن للنظرية النسبية نتيجة لصدفة وقوع تفاحة من شجرة، واكتشاف فليمنج للبنسلين بسبب صدفة نسيانه وعاءً طبياً مليئاً بالمكروبات بلا غطاء، وعودته بعد ايام ليجده مليئاً بعفن قتل كل المكروبات التي كانت موجودة فيه، و صدفة هبوب رياح عاتية على أشرعة سفينة كريستوف كولومبوس أدت إلى تغيير مسارها بالخطأ ليكتشف امريكا.
&& &يجسد هذا الكتاب تجارب وخبرات ومشاهدات سنة غنية حافلة أمضاها الدكتور الحلّي في خدمة سكان قرية "غارذيكي" اليونانية، والقرى المجاورة لها، متضمنا 12 لوحة بالألوان جسدت سحر الطبيعة في الريف اليوناني. ويهدي المؤلف كتابه إلى ثلاثة أحباء، يقول أن مخطوطه وهو يعيش غربة عميقة، كان مثل طفل عزيز ضائع قبل احتضانهم ورعايتهم له بالنيابة عنه، وهم الصحفي فلاح المرسومي الذي قام بمراجعة الكتاب ومتابعته حتى صدوره، وصديق طفولته الاستاذ زكي تقي الحلي الذي كان كلما فترت همته و اصابه القنوط من مشاكل النشر و غيرها يهب ليجدد أمله و يشحنه بطاقة جديدة من الصبر، و محمد الكتبي الذي تولى مسألة النشر و التوزيع بحرص و ايمان و تجرد نبيل دون اي سابق معرفة معه.&& &&& &
&& &لقد صادف ان يحصل الدكتور الحلّي على شهادة الاختصاص في طب الاطفال، في نفس يوم حصوله على الجنسية اليونانية، وكان أمامه سبيلان إما أن يؤدي الخدمة العسكرية، أو أن يعمل طبيبا في القرى والأرياف، وبعد أن علم بأنه &معفو من الخدمة العسكرية بسبب العمر، ذهب في اليوم الثاني إلى مكتب خدمة الاطباء في القرى والأرياف، فصدم ثانية عندما أخبروه بأنه معفو من هذه الخدمة الاجبارية ايضاً، وبعد أن لاحظت الموظفة المسؤولة حزنه الشديد بسبب هذا الإعفاء، أخبرته ان لا قانون يمنعه إذا أراد أن يعمل متطوعاً، وسيمنح ميزة اختيار القرية او المركز الصحي الذي يريد بين الاماكن الشاغرة ، لانه يملك درجات أفضلية عالية، فوافق على التطوع فوراً.
&& &كان الأطباء الجدد يعطون الأفضلية لاختيار الجزر اليونانية السياحية الجميلة باعتبارها تتيح لهم فرصة عمل و سياحة، أو القرى القريبة من العاصمة اثينا أو المدن الكبرى. أما بالنسبة له فكانت هنالك أفضلية واحدة هي أن تكون القرية قريبة من محل سكن أسرته في العاصمة أثينا.&& &
&& &أفرحه كثيرا عثوره على منصب طبي شاغر في قرية تبعد عن أثينا بـ 97 &كليومتراً فقط، فاختاره بدون تردد. ولكن بعد أن ملأ الاستمارة المطلوبة ليقدمها الى مديرة المكتب، شاءت الصدف أن يجدها منشغلة بأمر طارئ، فاضطر إلى العودة لها في اليوم الثاني، فسلمته الاستمارة وأوراق المعاملة بعد أن صادقت عليها، ليقدمها بنفسه الى المدير العام في الوزارة لإقرارها وإصدار أمر التعيين. إلا أنه لاحظ أن مديرة المكتب كانت مترددة بعض الشيء في قول شئ ما، و لكنها في النهاية فضلّت السكوت، مع بقاء نظرات عينيها تتنقل حائرة بينه وبين فتاة شابة صغيرة كانت تنتظر واقفة خارج مكتبها.
&& &بعد خروجه من المكتب، أوقفته الفتاة بأدب وخجل، واستأذنته بأن تتحدث معه، فأخبرته بأنها طبيبة متخرجة قبل أسابيع، وإنها وحيدة أهلها ومن مواليد وسكنة القرية التي اختارها، والتي يعيش فيها أهلها وكل اقاربها، وإنها كانت تود كثيراً ان تحصل على هذا المكان، و لكن درجات الافضلية لا تسمح لها بذلك، وإنها حاولت حتى مع المدير العام للوزارة الحصول على هذا المكان، لكن ذلك لم يكن ممكناً بسبب الدرجات القليلة، إلا أن المدير وعد بمساعدتها إذا تنازل الدكتور الحلّي اليوم عن هذا المكان الشاغر. وسرعان ما أخرجت من حقيبتها وثائق تثبت صحة كلامها، فما كان منه إلا أن تنازل لها و لكن بشرط واحد فقط، هو أن يتأكد من أنها هي التي ستحصل على هذا المكان بالفعل.
&& &بعد أن قدم التنازل، وضمن أن الفتاة شغلت مكانه بعد توقيع المدير العام للوزارة، رجع الى مديرة المكتب، فسلمته قائمة جديدة بالأماكن الشاغرة، فكان أقربها يبعد عن أثينا حوالي الساعتين. و (بالصدفة) رنّ جرس هاتفها، فسمعها تعتذر بحزن ممزوج بالتذمر وتبرر موقفها، بأن لا أحد يقدم طلباً على هذه القرية. وبعد أن أغلقت الهاتف، قالت بغضب لموظفة تجلس أمامها، أن هذه السيدة تتصل يومياً وتسأل وتحتج على عدم وجود طبيب في قريتها و المكان شاغر منذ اكثر من سنة ونصف.&
&& &في تلك اللحظة كان قد انتهى من ملء استمارة وطلب جديدين، لكن مكالمة مديرة المكتب والحديث الذي دار على الهاتف جذب انتباهه، فسألها إن كان هنالك سبب مهم يدعو هذه السيدة للاتصال يومياً بهذا الشكل، فأخبرته بتذمر إنها لا تستطيع إلا اعطاءها الحق، لأن قريتها بدون طبيب منذ فترة طويلة. وهنا شعر المؤلف في داخله أن الامر اصبح يهمه، وعندما سأل المديرة عن اسم القرية، أخذت تحدق به مستغربة، وبعد أن أخبرته بأن اسمها "غارذيكي"، سألته بفضول شديد و كأنها حصلت على فرصة نادرة لن تتكرر إن كان يهمه التقديم لها، فهز رأسه بالايجاب.
&& &تلقت مديرة المكتب إجابته باندهاش كبير، وسرعان ما أنجزت معاملة الالتحاق بالعمل و كأنها تريد التحرر من هم كبير، وجعلته يتكلم هاتفيا مع السيدة في القرية وزوجها الذي قال له: - تعال لنا و لن تندم ابداً..! كان من الغريب حقا أن يقبل بمحض الصدفة العمل في قرية لا يعرف أين تقع، ولكنه بعد عمله فيها، وجد انه في هذه القرية الجميلة ومع اهلها الرائعين خاض أهم و اغنى و اعز تجربة من تجارب حياته، واصفا إياها بأنها كانت تجربة حياته الفريدة من نوعها التي لن تتكرر ابداً.&
&& &لقد عاش المؤلف بالفعل تجارب جميلة وغنية يطول ويطول الحديث عنها، وقد ربطته بسكانها علاقات حميمة جدا فكان يشعر كما هم يشعرون، بأن علاقتهم تبدو وكأنها قد بدأت منذ أمد طويل جدا، علما بأن أصغر سكان القرية عمره 82 سنة، حيث حكمت صدف الحياة وظروفها أن يعيش الأبناء والأحفاد خارجها.&
&& &كان عدد سكان القرية حوالي 170-190 شخصاً، وعندما يشتد البرد يهرب الاغلبية منهم فيبقى منهم بحدود 50 الى 70 شخصاً، اما في الصيف فيزداد العدد الى عدة آلاف حتى ان المرء لا يجد موطئ قدم . وهناك المئات من سكنة القرى المجاورة تابعين للعيادة.
&& &وإذا كان قد سمع منهم الواحد تلو الاخر تذكيراً بأن بيوتهم ستكون مفتوحة له ولعائلته كلما زار قريتهم، فإن ذلك قد تحقق بشكل فعلي بعد انتهاء عمله فيها ومغادرته لها، إذ انه اضطر في اول زيارة له للقرية بعد انتهاء خدمته، إلى المبيت كل يوم ببيت مختلف بسبب الحاحهم على تقديم الواجب له. وأبعد من ذلك فانه عندما أبدى رغبته بشراء قطعة أرض في القرية بمساحة &50 – 100 متر مربع ، وجد أن أبناء القرية قد تبرعوا له بقطعة أرض مجانا مساحتها 500 متر مربع. كما تم منحه مواطنة الشرف لخدماته الطبية والاجتماعية خلال عمله في المنطقة.
&& &يصف لنا المؤلف الطريق الذي قاده إلى القرية بشفافية وصدق وعذوبة، حتى لنشعر اننا كنا نشاركه متاعب الطريق وجمال الطبيعة التي تحتضنه، وما رافق السفرة من صدف ومفاجآت ومفارقات. وإذا كانت قرية "غارذيكي"، تتشابه مع القرى اليونانية الأخرى بوجود ساحة واسعة للقرية، تكون عادة مركز اجتماعات و لقاءات اهل القرية مساءً او في الاحتفالات، فإن ما شكّل مفاجأة غير منتظرة له وجود حوالي سبعة أو ثمانية رجال كبار السن، يجلسون على كراس، وعلى شكل نصف دائرة، وكلّ واحد منهم يمسك عصا المشي بيده، وكلهم بلا استثناء و بصورة متشابهة تماماً قد أحنوا أجسامهم الى الامام متكئين برؤوسهم على أياديهم التي تمسك العصي، فتخالهم من بعيد وكأنهم أصنام بلا حركة . لم يكن يتحرك منهم شيء سوى أعينهم. ولم يكن صعباً عليه أن يدرك بأنهم أكبر رجال القرية سناً، بل ان العديد منهم قد تجاوز التسعين من عمره.
&& &شعر بالحرج ولم يعرف كيف سيبدأ كلامه وأعينهم تحدق به بنظرات بين الحذر المليء بالأنزعاج والفضول لمعرفة مَن يكون. ولكن ما أن أطلق الكلمات السحرية: (أنا الطبيب الجديد)، حتى دبت الحياة في الاصنام فجأة..!!، تفككت في الحال جلستهم الصنمية، و وقفوا يتدافعون فيما بينهم، للسلام عليه ومصافحته بحرارة تبعث على الذهول حتى ان احدهم و قد لاحظ اندهاشه الشديد، عللّ له برود استقبالهم، بانهم ملّوا من الباعة المتجولين الذين يزورون القرى باستمرار ويعرضون عليهم بضاعتهم.
&& &هذه الساحة (ساحة الاصنام)، أصبحت بعد استقرار المؤلف الدكتور رعد الحلي، مكانا يحب زيارته كثيرا ليمضي أوقاتاً جميلة في الحديث والحوار والنقاش وتبادل الآراء مع أناسها المكتنزين بالطيبة والصفاء والتجربة. كان الحديث عند اللقاء بهم، يبدأ كل مرة بسؤال بسيط ، فيتشعب ويكبر ويتفرع حتى ينتهي بموضوع لا علاقة له البتة بالسؤال او الموضوع الاول، وكان التنوع في الرؤى الحياتية والثقافية والاختلاف في العمر والافكار وطريقة الحياة ، يجعل الحديث مشوقاً في كل مرة.&& &
&

ملبورن