قرأ سيث أنزيسكا الكثير من الوثائق الإسرائيلية السرية عن مجزرتي صبرا وشاتيلا، فوجد أن الجانب الأميركي سكت عن قتل الفلسطينيين في مخيمي بيروت، بعدما صدق الزعم الإسرائيلي أنهم "مخرّبون".
&
إيلاف: وجد الأكاديمي سيث أنزيسكا، أستاذ الدراسات العلاقات اليهودية - الإسلامية في كلية لندن الجامعية، وثائق كانت سرية تتناول الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وذلك في أثناء بحثه داخل أرشيف دولة إسرائيل في عام 2012.

سكوت أميركي
أثبت أنزيسكا هذه الوثائق في كتابه منع وجود فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو Preventing Palestine: A Political History from Camp David to Oslo (المكون من 464 صفحة، منشورات جامعة برينستون، 35 دولارًا)، وبينها محاضر اجتماع عُقد في 17 سبتمبر 1982، ضمّ مسؤولين إسرائيليين وأميركيين، في أثناء ارتكاب مجزرتي صبرا وشاتيلا في بيروت، بعيد وصول الجيش الإسرائيلي إلى قلب العاصمة اللبنانية.

تكشف محاضر اللقاء عن حديث بين أرييل شارون، وزير الدفاع الإسرائيلي وقتذاك، وموريس درايبر، الدبلوماسي الأميركي، تناولا فيه المجزرة التي ارتُكبت ضد المدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا في جنوب بيروت، وسكوت داريبر عمّا كان يجري، وتصديقه إدّعاء شاروت عن بقاء "إرهابيين" بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت بحرًا إلى تونس، أو "مخربين" كما كان الإسرائيليون يسمّون المقاتلين الفلسطينيين.

يقول أنزيسكا إن سكوت درايبر جعل الأميركيين شركاء في المجزرة التي ارتكبها مسلحو ميليشيا حزب الكتائب اللبناني، المتحالف مع إسرائيل حينذاك، ثلاثة أيام متتالية.

تنظيف المدينة
نشرت "نيويورك تايمز" مقتطفات من الملحق السري لتقرير لجنة كاهان للتحقيق في المجزرة بوصفها مصدرًا مباشرًا للباحثين. قالت الصحيفة إن الملحق مجموعة مروعة من المذكرات ترسم صورة أكمل لإصرار الإسرائيليين وعناصر حزب الكتائب على ممارسة العنف ضد المدنيين الفلسطينيين، في إطار حرب أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.

يضم الملحق محاضر اجتماعات بين مسؤولين إسرائيليين ولبنانيين خلال حرب عام 1982، ونقاشات بين الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وقادة موارنة لبنانيين بشأن مصير الفلسطينيين، وشهادات مسؤولين إسرائيليين كبار، ومحاضر اجتماعات عقدتها الحكومة الإسرائيلية تناولت فيها نتائج المجزرة.&

إجمالًا، تقدم الأدلة تفاصيل جديدة عن نقاشات إسرائيل المستفيضة مع حلفائها في لبنان "لتنظيف المدينة من الإرهابيين"، في إطار أجندة سياسية أوسع لتغيير التركيبة السكانية اللبنانية، كما تقول "نيويورك تايمز"، واصفة ما جرى بأنه كلام "كاذب" عن وجود "إرهابيين" أسهم في سكوت أميركا عن أعمال عنف أسفرت عن مقتل مئات المدنيين الأبرياء في سبتمبر 1982.

في كتابه، يكتب أنزيسكا أن حرب لبنان لم تعزز هيمنة إسرائيل على جارها الشمالي الضعيف، بل أصبحت "فيتنام إسرائيل"، وأن تدخل إسرائيل أسفر عن مقتل أكثر من 600 جندي إسرائيلي، وما لا يقل عن 5000 مدني لبناني وفلسطيني، أو اكثر من 19 ألف قتيل وفق تقديرات لبنانية أخذت عدد المقاتلين في الحسبان.

أضلاع المجزرة
يروي أنزيسكا كيف أن أربعة جنود إسرائيليين طرقوا باب الأكاديمية والمؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت في بيروت يوم الجمعة 17 سبتمبر 1982 خلال أعمال القتل الجارية في مخيمي صبرا وشاتيلا، وكان زوجها شفيق الحوت ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان مختفيًا بعد استهدافه بمحاولات اغتيال عدة.

عثر أحد الجنود على جواز سفر زوجها الفلسطيني من أيام طفولته في يافا، حيث ولد شفيق الحوت ونشأ تحت الانتداب البريطاني. ذهل الجنود حين تصفحوا جواز السفر.

قالت لهم بيان نويهض الحوت: "رد فعلكم لا يفاجئني، وأنا واثقة من أنكم لم تروا وثيقة كهذه. فهي كما ترون مكتوبة بثلاث لغات، العربية والإنكليزية والعبرية، حين كانت فلسطين تتسع للجميع، بصرف النظر عن الدين أو الطائفة". صادر الجنود الإسرائيليون جواز السفر رغم محاولات بيان لاستعادته.

ينقل الكاتب عن بيان نويهض الحوت قولها إن المجزرة ذات ثلاثة أضلاع، وهي ليس لديها إلا ضلع واحد هو ضلع الضحية. الضلعان الآخران هما الكتائب، "أولئك الذين نفذوا المجزرة"، وضلع "أولئك الذين كانوا يقودون العرض".

إجهاض حق العودة!
يكشف ملحق تقرير لجنة كاهان الضلع الثالث، ويفرض مراجعة جديدة للمجزرة ودلالات الأحداث التي وقعت في عام 1982، بحسب أنزيسكا، مشيرًا إلى أن الوثائق ترسم صورة تجريمية أوسع للهفة إسرائيل إلى دعوة ميليشيا الكتائب إلى دخول بيروت والمساعدة على تنفيذ هدف دبلوماسي عسكري، هو إجهاض مطلب الفلسطينيين بدولة مستقلة وبحق العودة. إن الأدلة التي تتضمنها الوثائق تقوّض الجهود الرامية إلى رد الاعتبار إلى قادة جهات سياسية متعددة خلال فترة الحرب.

في إسرائيل، بلغت حملة رد الاعتبار ذروتها في حالة أرييل شارون. فالإدانة الواسعة لدور شارون في حرب 1982 في البداية انحسرت أمام انبعاثه من جديد حين انتُخب رئيسًا للوزراء في أوائل العقد الأول من القرن الحالي.

لكن التركيز على شارون وحده يبرئ آخرين من ضلوعهم في أعمال العنف ضد اللاجئين الفلسطينيين. يؤكد أنزيسكا أن مطالب الفلسطينيين السياسية لم تُجهض في الثمانينيات، ومحاولات إجهاضها لن تمر اليوم من دون مقاومة. وكما أظهرت مواجهة بيان نويهض الحوت للجنود الإسرائيليين الذين صادروا جواز سفر زوجها، فإن الفلسطينيين ما زالوا موجودين على الرغم من سرقة الأدلة التي تثبت تاريخهم.
&