صدر للكاتب الروائي العراقي لؤي حمزة عباس كتابه الذي يحمل عنوان (كتاب المراحيض) عن دار المُعقدين في البصرة/ العراق، وهو كتاب المسكوت عنه الذي يتناول فيه المؤلف الانثيالات الكثيرة بلغة ادبية مميزة لهذا المكان المميز الذي يمتلك تاريخا سريا صادما مثلما هو عنوان الكتاب الذي يستفز القاريء وكأنه سيشمّ رائحة كريهة لكنه في الحقيقة سيقرأ ما لم يتعود قراءته من قبل ويرسم في ذهنه تصورات مدهشة لوقائع لم يتوقف عندها ، وهو ما يمكن القول عنه انه رحلة اللغة بين مراحيض آدم ومراحيض الحرب ومراحيض قاطع الإعدام مرورا بالعديد من المسرات والموجعات التي يجد فيها القاريء اجزاء من حياته متجسدة فيه فلا يجد الا ان يهز رأسه لانه قرأ ما لم يعرفه عن نفسه !!، حيث يشدد الكاتب (تاريخ المرحاض هو تاريخ مسير الانسان من الوحشية الى التمدن وللرقي) .
وهو بالتأكيد كما يقول المؤلف ليس المراحيض كتاباً في القباحة والإباحية، وليس باباً يقود إلى العدميّة والحطّ من منازل الجمال، بل هو كتاب يجعل من موضوع الهامش طريقاً للكشف عن كوامن الطبيعة الإنسانية وما يحكمها من نُظم وعلاقات وأخلاقيات، ليكون المستبعد المنفي من بقعة الضوء في حياتنا مساحة واسعة للبوح والإنصات، حاضراً وماضياً، ويغدو القبيح، المسكوت عنه طويلاً، مبتدءاً لفصول الجمال وبوابة لرصد الطبيعة الإنسانية التي انشغلت بأعراف (الجميل) الرفيعة وتركت كلَّ ما هو (وضيع) خارج مقولاتها السامية، من هنا كان كتاب المراحيض سفراً عراقياً انبثق من لوثة حرب الثمانينيات وسنواتها القاهرة، ليتم تلقيه وتداوله في الثقافة العراقية منذ ذلك الحين، تعبيراً عن قوة الهامش وفاعليته في التصريح عن ألم الإنسان واحباطاته المستمرة .
يقع الكتاب ،الذي صمم غلافه صدام الجميلي وصممه داخله صفاء ذياب ،في 162 صفحة من القطع المتوسط ،والظريف في الكتاب انه ليس مكتظا بل فيه فسحات للتأمل ومساحات تجعل القاريء يمتلك النص فلا تمر كلمات منه من دون ان يعيرها انتباهه، ثم ان اللغة المكتوبة بها نصوص الكتاب تتسامى برقيها وادبها وعبقها لكي لا تمتلك من العنوان الا صدمته ،لاسيما مع قول المؤلف (أفكر أن عليَّ أن أبدد ما تجمّع من ظلال المعنى، أدحض المعنى بطريقة ما لأزيد من التباس الأثر. أن أزيل ما ترسّب في قاع روحي، فأحاول بالمراحيض نفسها أن أحرف حديث المراحيض..) .
لم يعتمد المؤلف في كتابه الفصول والاقسام المتعرف عليها بل انه اوجد لكتابه تقسيمات تتمثل في (وقف،وصل، فائدة، فائدة مثلها ،وقف يشابهه، وقف يجاوره،وفصل وفيه..) ،فضلا عن عناوين عناوين فرعية اخرى،مثل :مراحيض الحروب، مراحيض الذهب، مراحيض المدن
ومراحيض خاصة، افتتحه بكلمة موجزة قال فيها (اذا كان لكل من الاماكن ارشيفه الخاص ،تاريخ حياته الموثق،فان المراحيض هي التاريخ السري للاماكن جميعها،مفاتيح سعاداتها واقفال احزانها) ، ثم اوضح في (قصة) قصة كتابه قائلا : (لكتاب المراحيض قصة ،اسوة بكل كتاب اخر،فقد تولدت فكرته مع مدونات شبه يومية :ملاحظات ،مستلات من قراءات مختلفة ،افكار اولية بقصص قصيرة ،خواطر اقرب الى الشعر،كتبت خلال الحرب العراقية الايرانية، ثمانينيات القرن الماضي، ولم يكن كاتبها قد تجاوز الخامسة والعشرين، بدافع من قسوة التجربة التي وجد نفسه مرميا في خضمها،لم يكن هاجس الحياة وراء انبعاث شرارة الكتاب،بل هاجس الموت العابث العنيف وهو يجرد الحياة من اسمى معانيها ويحيل الانسان الى جيفة مرمية في الارض الحرام ).
يفتتح المؤلف كتابه بمدخل قال فيه (منذ أن استل جبرائيل وسطاه من إست آدم، وآدم، حتى هذه الساعة، ولما يعدّ ولا يُدرك من الساعات، يلتذُّ بما يخرج منه، لذاذة الراحة والمراح، فيُقصي نفسه ليُعيد في كلِّ مرّة حرارة الأصبع في الإست المفتوق، محرٍّكًا إحساسه بالنزول الكثيف وهو يزيد من ارتباطه بالأرض، ويمنحه شعوراً خالصاً بالدفء والصلابة التي ينفتح لها إسته كما انفتح لأصبع الملاك، فيقوم وفي جسده شيء من خفّةٍ يخلّفها الجهد والدفء والرائحة، وعذوبة غريبة توطّد إحساساً مبهماً يسري في أسلاكه العصبيّة، موحِّداً بينه وبين أشدّ الكائنات نتانة، وبينه وبين صاحب الأصبع العتيق، فالعملية لم تخل من احساس النظافة الذي ترتفع به كلَّ مرّة، وهي تحرّك ظل الملاك المحبوس في طين الجسد الآدمي) .

يؤكد المؤلف في مقدمته التي وضعها للكتاب (ان ضرورة هذا الكتاب فردية،في تشكلها الاول،اقرب ما تكون الى نداء سري او صيحة مكبوتة في ميدان ضاج ضد القهر واستباحة الذات، وقد نشأت على جرف حرب مريرة ،معبرة عن مشاعر الرعب والقهر واحتمالات الظلام في مشهد تراجيدي سافر طويل،صادر سبا التعبير عن كل هاجس انساني لا يتماشى مع سبل التعبوية وتمجيد العنف) .
مقطع من الكتاب: (تسهم المراحيض لتحقيق فكرة الوطن،فالوطن، في نهاية الامر ،هو المكان الذي يلبي اقدم متطلباتنا الجسدية بيسر وامان، والمكان الذي لا نملك فيه فضاء خلوة خاصا يصعب ان يكون وطنا).
مقطع اخر : (ونفكر بالمرحاض لنصل الى الحقيقة المدينية المؤلمة: كل الغرف قابلة للتحويل وتغيير الوظائف بلا قيود الا غرفة المرحاض، انها تتحول باتجاه واحد دائما، تجاه السجن).
من الممكن التعامل مع الكتاب كقصص قصيرة جدا او ربما كرواية فيها من الحكايات والاشارات ما يمنحك فرصة البحث عن البطل الذي تقوم الكثير من الصراعات حوله فما ان تنتهي من حكاية او قصة اونص حتى تتهيأ الى يستدرجك الى قراءات اخرى مغايرة خاصة ان الكاتب اجهد نفسه في العرف على ثقافات العالم ونبش في الماضي العربي والعراقي واستخرج مواقف وحوارات لها امتدادات في الفكرة الرئيسية لعنوان لكتاب بل انه اجهد نفسه في جمع
كتابات كتبها العابرون المستخدمون للمراحيض فيها الكثير من الطرائف واللطائف والغرائب،وهو مل يذكرنا باسلوب كتابات الاجداد .