&

غيّب الموت يوم الثلاثاء الموافق 18 ايلول/ سبتمبر 2018، احد ابرز معماريي العالم "روبرت جارلس فينتوري" (1925 -2018) Robert G. Venturi ، عن عمر ناهز 93 سنة؛ هو الذي سبق وان تقاعد، في سنة 2012 عن ممارسة النشاط المهني في مكتبه الاستشاري الذي اسسه اول مرة عام 1960 بالاشتراك مع "وليم شورت" ثم مع "جون راوخ (1964)، وانضمت زوجته المعمارة "دينيس سكوت بروان" (1931) Denise Scott Brown الى المكتب كشريك في سنة 1969، والتى لاتزال تعمل فيه لحين الوقت الحاضر.

كانت حياة "فينتوري" مليئة بانشطة معمارية متعددة الاهتمامات، فقد عمل في مكتب "ايرو سارنيين" بعد ان تخرج من جامعة برينستون سنة 1947، ولاحقا عمل مع مكتب "لويس كان"ـ قبل ان يؤسس مع صديقه مكتبا استشاريا خاصاً بهما. اهتم فينتوري بالتدريس المعماري، ودرس في جامعة بنسلفانيا، ثم في جامعة يال، واخيرا ساهم مع زوجته في التدريس في جامعة هارفرد. لكن فنتوري معروف جيدا ككاتب ومنظر للعمارة، وهو يعد واحدا من اشهر منظري العمارة في القرن العشرين. ويعتبر كتابه "التعقيد والتناقض في العمارة" (1966) ؛< الذي ترجمته سعاد مهدي الى العربية ونشر ببغداد في 1987)، يعتبر بمنزلة "مانفيستو" عمارة ما بعد الحداثة، وتمهيدا لظهورها في المشهد المعماري وخطابه. اما كتابه الآخر (التى اشتركت معه زوجته "دينيس سكوت براون" في تأليفه، مع المعمار والمخطط "ستيفن ازينور" S. Izenour)، "درس من لاس فيغاس" (1972) Learning from Las Vegas، فانه اضافة مميزة ولافتة في مفاهيم عمارة ما بعد الحداثية، وقيمها الجديدة.

ومن خلال تلك الانشطة المتنوعة التى حققها روبرت فينتوري، فقد تكرّس اسمه كشخصية نافذة في الخطاب المعماري العالمي وخصوصا في خطاب عمارة ما بعد الحداثة، كاحد منظريها وممارسييها المهمين. صمم روبرت فينتوري، وكما هو معروف، كثيرا من الابنية وقدم مشاريع عديدة اثرت بتكويناتها اللافتة، ولغتها التصميمة الفريدة ذخيرة عمارة الحداثة وما بعدها. وبمناسبة رحيله مؤخرا، فقد كتب (وسيكتب) الكثير عن منجزه المعماري الاستثنائي في اهميته. وستكون تلك الكتابات و"القراءات" عاملا مهما في فهم وادراك منجزه التصميمي، وحتي في اعادة تقييم و"قراءة" هذا المعمار المجتهد. وهو امر نراه منطقياً لجهة التقدير العالي الذي يكنه المجتمع المهني له ولكتاباته ومشاريعه المعمارية والتخطيطية. حاز على جائزة "بريتزكر" Pritzker Award المرموقة عام 1991، كما نال جائزة "فينسنت سكلي" عام 2002.

زار "روبرت فنتوري" بغداد، بدعوة من المعمار "رفعة الجدادرجي"، في مطلع الثمانينات ، وتحديدا في نوفمبر سنة 1981، مثلما دعي الاستاذ الجادرجي، الذي كان يشغل مستشارا لامانة العاصمة وقتها. كثيرا من المعماريين العالميين المهمين لاجل المشاركة في اعداد مشاريع ضخمة كانت الدولة العراقية تنوي تحقيقها في بغداد حينذاك. وقد ساهم فينتوري بتقديم مشروعين احدهما مشاركته، مع مكتب "علي الموسوي" في تقديم مشروع جامع الدولة الكبير (1983). وقد احدث ذلك المشروع "صدمة" بصرية ومفاهيمية للكثيرين، لناحية "غرابة" الطرح التصميمي، واسلوب التغيير الرديكالي الصارخ "لاميج" المسجد، الذي دأب المصممون على ترسيخ نموذج صورته في المخيلة وفي ذاكرة الناس طيلة عقود طويلة من السنين! كانت "ضربة" التكوين

في ذلك التصميمم المثير، هو قرار "انزال" قبة المسجد الى الارض، وجعلها مفردة تصميمية من مفردات "اثاث" صحن المسجد المطوق المفتوح! (جدير بالتنويه، ان حلّ "هبوط" القبة ، وانزالها الى الارض، سبق وان وظفه "فالتر غروبيوس" في الستينات بمشروعه لمسجد جامعة بغداد في الجادرية ببغداد). واذكر، باني كتبت مقالا مسهباً في حينها، تناولت فيه قراءة مشاريع المسابقة، بضمنها مشروع "فينتوري" هذا، ورحبت بشجاعة الفكرة التصميمة و<جسارتها>، مشيدا بالحل التكويني للمسجد المقترح ولغته المثيرة المجترحة من قبل المعمار العالمي الشهير. وقد نشرت ذلك المقال في الثمانينات، باحد اعداد مجلة "آفاق عربية" التى كانت تصدر ببغداد. ولهذا فاني سوف لن اتحدث مرة اخرى ، هنا، في مقالي المكرس الى <فينتوري ...البغدادي> عن عمارة ذلك المسجد غير المسبوقة، وانما ساتناول مشروعاً آخراً، صممه "روبرت فينتوري" خصيصا لبغداد سنة 1981، وانا اعني "المبنى المتعدد الطوابق والوظائف" الواقع على شارع الجمهورية في منطقة "سيد سلطان علي" بمحلة المربعة، مقابل منطقة "العوينة" بمحلة "الشيخ فتحي" من الجهة الآخرى للشارع. وقد صممه يالتعاون مع مكتب "تيست" الذي كان يقوده المعمار معاذ الالوسي.

كان ذلك المشروع، الذي جاء بثمانية طوابق/ مبناً سكنيا، بالاساس، خصص الطابق الارضي الى الوظيفة التجارية، تمثلت في دكاكين ومتاجر عديدة. انطوت معالجة واجهات الطوابق، بالجوهر، على وجود مفردة الشرفات العميقة فيها، مع توظيف ايقاع مستمرـ تخلقه مفردات واجهة الشقق الاخرى الواضحة والمختزلة. في حين اتسمت واجهة الطابق الاخير (الثامن)، على خلاف منظومة الواجهة الكلية للمبنى باستخدام عناصر عديدة ومختلفة في اشكالها ومقاساتها، لتؤلف ، في الاخير، واجهة هذا الطابق العلوي الذي يتضمن "انواع من شقق سكنية من نوع "شقق السطح" ،Penthouse. وقد استفاد المعمار من خصوصية واجهات تلك الشقق المتنوعة والمختلفة عن سياق معالجة الواجهة الرئيسية، ووظفها تصميمياً في "غلق" منظومة انسيابية عناصر واجهة المبنى، التى يتعين وقف "انسيابيتها" بدواعٍ تكوينية

تحيلنا عمارة مبنى "سيد سلطان علي" ببغداد الى مرجعية تصميمة معينة، او بالاحرى الى قيم ومبادئ، شكلت اطر مرجعية تصميمة استنتجها "روبرت فنتوري"، واشار اليها كثيرا في كتابه <درس من لاس فيغاس> لكني قبل ان اتحدث عن خصوصية عمارة المبنى ومرجعيته التصميمية، اود ان انوه، مرة آخرى، بمنزلة "روبرت فينتوري" المعمارية الكبيرة، التى يحظى بها من قبل المجتمع المعماري الدولي، بكونه احد المنظريين المهميين، في الخطاب المعماري المعاصر. اذ استطاع ان يغير من قناعات وتصورات راسخة عن مفهوم العمارة وقيمها، التى كتب الكثير عنها وعن ضرورة تغيير منطلقاتها التنظيرية والفلسفية، مع تقديم، في الوقت عينه، بدائل نظرية ومبادئ تحكم عمل ونتاج عمارة جديدة، دعيت لاحقا بـ "عمارة ما بعد الحداثة". لا يمكننا، هنا، بالطبع (لخصوصية المقال واختصاره)، الاسهاب كثيرا عن ما "اتى" به فينتوري من مفاهيم نظرية، غيرت في الاخير القناعات الراسخة والثابتة التى لازمت عمارة الحداثة. ففي مجادلته، مع قيم عمارة الحداثة، اختار فينتوري، ان تكون "أطروحته" التى اشتغل عليها كثيرا، "معاكسة" تماما لما يمكن ان يكون امرا "مقدساً" لدى الحداثيين: وهو الاعلاء من شأن قيمة تجريدية المعالجات التصميمية واختزال مفرداتها، متأخذين من مقولة "القليل يعني الكثير" Less is more ، المنسوبة الى "ميس فان ديّرو" شعاراً لهم. كان النداء الذي اطلقة فينتوري (وامسى بمثابة "لوغو" Logo "لاطروحته" النظرية)، يتمثل في مقولة "القليل يعني الضجر!" Less is bore ، غامزا بها من قناة ذلك "القليل" <الميسوي>، ومستخدما اياها كـ "مضاد نوعي" لتلك المقولة التى داب الحداثيون رفعها عاليا، والتعاطي معها بكونها "حقيقة صائبة" منزهة عن النقد والشبهات!

لقد اجرى فينتوري ورفيقيه (سكوت بروان، وستيفن ايزنور) مسحاً ميدانيا، قاموا به في "قطاع لا س فيغاس"، ما بين نهاية الستينات وبداية السبيعات، وخلصوا به الى عدة نتائج، وثقوها في كتابهم المهم "درس من لاس فيغاس" الصادر في 1972. لقد اعتبروا تلك النتائج المستحصلة جد هامة، لجهة ترسيخ قناعاتهم الجديدة وادراكهم الخاص لنوعية مفاهيم الفعل المعماري وخصوصيته. كما اهتدوا فيه، الى ما عُرف لاحقا بـمفهوم "البطة" Duck، والذي يعاكسه مفهوم "السقيفة المزخرفة" Decorated Shed ، وهما مصطلحان يترددان كثيرا في الكتاب اياه. "فالبطة" هنا، ترمز الى امكانية "غمر (او تجميع) النظم المعمارية الخاصة بالفضاء، مع البنى الانشائية، والبرنامج التصميمي ويتم تشويهها من خلال شكل رمزي شامل!" واستوحوا هذه الفكرة من مبنى ضخم لمتجر حقيقي على شكل <بطة>، دُعي بـ "البطة الكبيرة"، والذي بمقدور الزبائن ان يجدوا فيه بطاً او بيوض بط. وقد جعل مسؤولوا المتجر ذلك الامر، واضحا للمارة والمسافرين، باختيارهم لذلك الشكل البسيط والافت، وترمز " السقيفة المزخرفة" الى ان " النظام الفضائي المعماري، والبنى الانشائية يخدمان المنهاج بصورة مباشرة؛ في حين بتم تطبيق الزخرفة، واستخدامها بشكل مستقل" ويراد من كل ذلك الدفع نحو تمجيد <حيوية الفوضى> (او ما يعرف بـ "الفوضى الخلاقة!") الحاضرة في البيئة المبنية، مطالبين المعماريين والمخططين لاعادة النظر واحترام ثراء وصفاء نماذج الاعمال الماضية والتصميم اليومي. من جانب آخر، يناشد فينتوري، زملائه المصممين بأهمية الاحتفاء بالحياة اليومية، والاحساس بنشوة درس الاثار والاعمال الماصية. وفي الوقت الذي لا يصرف فينتوري النظر عن النزعات الحداثية، فانه يهتم ويركز على الحالة الواقعية، هي التى يدعو المصممين لمراعاتها والنظر اليها بتروٍ وبامعان. من هنا يغدو نداءه الذي صاغه من ان "الجادة دوما على حق!" بمثابة مناشدة من نوع خاص، لاحترام عمارة "الشارع" او بالاحرى التعلم منها ومن "فوضويته" التى يمكن استيلاد افكار تصميمية لافتة!

في اسلوب تعاطيه مع "مبنى سيد سلطان علي" ببغداد تصميمياً، ينزع فينتوري الى "تجميع" عناصر تصميمية، استقاها من جولاته البغدادية التى قام بها مع اصدقائه المعماريين العراقيين، لتمثل مستقبلا مفردات تصميمية يوظفها في مبانيه البغدادية. وبغض النظر، عن قيمة تلك العناصر و"مرجعياتها" الاسلوبيةـ فانها تغدو لديه بمنزلة ادوات يمكن بها اضفاء مسحة محلية على التصميم، تتساوق حضورها واهميتها، مع حضور وأهمية ما كان ينادي به، ويدعو اليه من ضرورة احترام ومراعاة "عمارة الشارع" وواقعيته! (يذكر معاذ الالوسي في حديث خاص معي، من ان فينتوري كان مولعاً في ايجاد "متوازيات" بصرية ما بين "المقرنصات" التى تزخر بها الابنية البغدادية، و"اشكال" جذوع النخلة ، المغرم فينتوري بشكلها واستقامتها)! ولعل الرسومات الاولية التى انشرها مع هذا المقال، والخاصة بدراسات فينتوري الاولية لمبنى "سيد سلطان علي"، تبين بوضوح تسلسل بزوغ الافكار التكوينية، المشكلة لقرارات معالجة واجهات المبنى البغدادي. ولو قدر لهذا المبنى ان ينفذ واقعيا، لكان، كما اعتقد، احد انجازات عمارة ما بعد الحداثة اللافتة، مثلما يمكن ان يكون، من دون ادنى ريب، احد الاحداث المهمة في الخطاب المعماري الحداثي المحلي والاقليمي. وأظن ان اهمية عمارة هذا المبنى تكمن، تحديدا، في قدرته على تقديم نموذج استثنائي "لاطروحة" فينتوري، من ان "عمارة الجادة... دوما على حق"!

معمار واكاديمي