ترجمة وتقديم علي كامل


"لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي". بابلو بيكاسو

القسم الأول
في مقدمته للمسرحية يقتبس المؤلف أرييل دورفمان مقولة لأوغست ستريندبيرغ تقول:"أي شيء يمكن أن يحدث، كل شيء ممكن ومحتمل، ليس ثمةوجود للزمان والمكان إلا وفق& أساس ضئيل من الواقع، المخيلة تنسج أنماطاً جديدة عبر مزج الذكريات، الخبرات، الابتكارات الحرة، اللا معقول والارتجال".
أرييل دورفمان كاتب أمريكي من أصل تشيلي، شاعر، روائي، مؤلف مسرحي وسينمائي، فضلاً من كونه ناشطاً مميزاً في منظمة حقوق الإنسان. غادر بلاده ولجأ إلى المنفى إثر الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه عام ١٩٧٣ الذي أطاح بحكومة سلفادور أليندي. كان دورفمان ولا يزال صوتاً مدّوياً ضد القمع السياسي وانتهاكات الحريات، ولعل مسرحيته الشهيرة "الموت والعذراء" التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام ١٩٩٤، هي بمثابة تجسيد جلي لنبرة ذلك الصوت.

مختلى بيكاسو: لا مكان للفنان للاختباء!
في هذه الدراما يُعيد المؤلف صياغة الوقائع التأريخية بشكل افتراضي لإجراء نقاش فكري بشأن الفن في مواجهته للحياة. إنه يبتكر شكلاً بيضوياً للأحداث هو بمثابة إشادة بالتكعيبية، الحركة التي نشأت أوائل القرن العشرين والتي أسسها ودافع عنها بيكاسو معاً هو والرسام الفرنسي جورج براك، والتي يتم فيها تفكيك الأشياء المألوفة بشكل هندسي وإعادة تجميعها بأشكال مجردة.
يقول دورفمان:"إن أفضل ما يمكن أن تفعله لفنان عظيم مثل بيكاسو هو أن لا تأخذه على محمل الجد إنما أن تستكشفه من خلال منظار ملتوي بوصفه أباً للمدرسة التكعيبية؟.
فالمؤلف يقوم هنا بتفكيك التأريخ وإعادة تركيبه عبر التلاعب بالزمن ومزج الشخصيات الحقيقية بشخصيات خيالية. إنه يخلق تأريخاً افتراضياً، إن لم يكن مبتكراً، بديلاً للتأريخ الحقيقي حيث يتعقب فيه ضابط نازي الفنان بيكاسو عن كثب ويقتله في الآخِر. (نحن نعرف أن بيكاسو توفي عام ١٩٧٣ في مدينة موجان جنوب فرنسا عن عمر ناهز الثانية والتسعين عاماً)، إلا إن دورفمان يطرح في مسرحيته "مخبأ بيكاسو" سؤالاً افتراضياً مثيراً للحيرة والدهشة وهو: ماذا لو لم يمت بيكاسو عام ١٩٧٣، ولكن تم قتله من قبل النازيون عام ١٩٤٤ أثناء احتلالهم لباريس؟
بنية كهذه ليس الهدف منها تعتيم الحقائق أو تشويهها بالطبع، إنما إلى إيضاحها وإضائتها. والفنان يمتلك وسائل عدة لقول الحقائق، كما يقول دورفمان
نفسه "إن الحقائق مليئة بالأكاذيب غالباً، لكنها أكاذيب ممتعة، ليست تلك التي تؤذي الناس، بل تلك التي تطرح أسئلة. وقد سبق لجان كوكتو أن قال الشيء نفسه بأن الفن هو كذبة تقول الحقيقة".
حين أُرغم الكاتب أرييل دورفمان على مغادرة بلده تشيلي عام ١٩٧٣ إثر انقلاب بينوشيه وأمضى السنة الأولى من منفاه السياسي في باريس فإن تجربته في المنفى تكاد تتماهى لم تكن مستبعدة إلى حد بعيد عن تجربة بيكاسو الذي اختار هو الآخر مغادره بلاده إلى باريس بشكل دائم عام ١٩٣٦ إثر إنقلاب الجنرال الإسباني فرانكو خشية أن يلاحقه ذات المصير الذي أفضى إلى قتل مواطنه لوركا.
تجري أحداث المسرحية في محترف الفنان بباريس في أربعينات القرن الماضي حين احتل النازيون باريس تساندهم حكومة فيشي التي كان يرأسها الماريشال فيليب بيتان الذي تولى الحكم من عام ١٩٤٠ إلى عام ١٩٤٤. كان بيكاسو حينها يعيش في باريس في سلام وحياد واضحين دون أن يصاب بأذى في حين تعّرض الكثير من أصدقائه من الفنانين والمفكرين
الفرنسيين إلى الملاحقة والموت على يد النازي، ولعل أبرزهم صديقه الأقرب الشاعر ماكس جيكوب.
تتضمن هذه المسرحية ثلاثة فصول هي (الفريسة، الملاحقة، ثم القتل) موزعة على سبعة مشاهد، ودورفمان يستخدم الرقم سبعة لأنه الرقم السحري بالنسبة لبيكاسو كما يقول.


نص اللقاء
ـ يبدو أن من العسير جداً تجسيد هذا النص على خشبة المسرح؟
ـ ينبغي القول بدءاً أنه نص تجريبي. دعنا نقول إنني حاولت، بتواضع، أن أتعامل مع الزمن في المسرح مثلما تعامل بيكاسو مع المكان، وهو خلق العديد من وجهات النظر وإزالة حواجز الهُّوية. لذا فالمسرحية يمكن أن تقف على الحد بين الشعبية والتجريبية.ـ بما أن شخصيات المسرحية المختلفة تطرح وجهات نظرها الواحدة تلو الأخرى، إلا إن ثمة مستويات متجاورة من الوقائع تأتي بعضها إلى جانب الأخرى... ـ معظم السير الذاتية على سبيل المثال تميل إلى أن تكون أفقية المبنى إلى حد ما، أو على الأقل، تتقهقر إلى الخلف ثم تتقدم نحو الأمام بالتناوب، أي أنها في حركة ذهاب وإياب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ وبالعكس... بمعنى، يمكن التنبؤ بها سلفاً. لقد قلت لنفسي "كيف بإمكاني كتابة مسرحية حول بيكاسو كما لو إن فنه لم يكن موجوداً على ؟". كان لا بد أن تتأثر هذه المسرحية ببيكاسو بالطبع، فالثناء الأعظم ليس للشخصية التي تقف على خشبة المسرح، إنما لبيكاسو وللفن الذي كان قام بتجسيده. أستطيع القول أنها مسرحية ما بعد ـ بيكاسو، في حين أن معظم المسرحيات التي شاهدتها حول بيكاسو وعن فنانين آخرين تميل إلى أن تكون كما لو أن الفنان لم يكن له أي تأثير عليها مطلقاً.

ـ إنها ليست مسرحية تكعيبية تماماً، أليس كذلك؟
ـ بل هي محاولة للقيام بفعل يتماهى وما فعله هو في لوحته (آنسات أفينيون): أن يجمع كل هذه الشخصيات، وقد تم تشويهها كلها، ولا أحد يعرف مَن... بعبارة أخرى، الواقع شيء مسّنن وخشن... إنه أشبه بمرآة تم تحطيمها وأعيد تشكيلها، إلا إن بعض قطع من هذه المرآة ستكون دائماً في عداد المفقودين. لتقديم تجربة كهذه للجمهور ينبغي أن تكون ممتعة للغاية في زمن مثل زمننا. أما إذا كان الأمر ليس كذلك فهذا خطأهم وليس خطأي في طرحها بشكل استفزازي (يضحك).

ـ حسناً دعنا نتحدث عن هذه المرحلة الزمنية من حياة بيكاسو. والمسرحية، نوعاً ما، تغطي الفترة التي تفصل بين لوحته الشهيرة غورنيكا التي أنجزها عام ١٩٣٧ ونهاية الاحتلال النازي لباريس عام ١٩٤٤. وقد عاش بيكاسو خلال تلك المرحلة في باريس تصفها أنت بأنها مرحلة غير موّثقة من حياته.
ـ طيب. نحن لا نعلم الكثير عما فعله بيكاسو، ما نعرفه بالضبط هو أنه كان مختبئاً. ولا أعني بكلمة "مختبأ" هنا بدلالتها المجانية، لأن العديد من الفنانين والأدباء غادروا بلدانهم خوفاً من خطر النازية وتوجهوا إلى الولايات المتحدة، فينيسيا، فرنسا، والبعض منهم هرب إلى إنجلترا. كان الناس في جميع أرجاء العالم قد فروا من قبضة النازيين.

ـ وينبغي القول أن بيكاسو في تلك الفترة كان الرسام الأكثر شهرة في العالم.
ـ بالضبط. لقد كان في ذلك الوقت هو الرسام الأكثر شهرة في العالم. وسوف يخرج من الحرب بشهرة أوسع، وهذا شيء استثنائي من وجهة النظر هذه. لذا فنحن ليس لدينا معلومات عما فعله في تلك السنوات الأربع. أعني، مؤكد أن هناك بعض الوثائق، لكن، عموماً كان بيكاسو حينها يمارس عمله بشكل طبيعي وبقي في باريس ولم يغادر وكانت لديه علاقة مبهمة بأناس في المقاومة ممن يعتنون به. بول إيلوار أحدهم، وهو إحدى شخصيات المسرحية، وكذلك الكاتب السوريالي مايكل ليريس، كانا حريصين على لا يحدث مكروه لبيكاسو.
من جانب آخر، كان بيكاسو في خطر كبير لأنه كان لاجئاً وليست لديه وثائق. بعبارة أخرى، كانت لديه فقط وثائق تؤكد إسبانيته. كان منفياً من إسبانيا ومن الممكن ترحيله في أية لحظة، ويمكن أن يُقتل في أية لحظة، وهذا ما تقترحه مسرحيتي كمجاز لنوع آخر من الموت الذي حدث له. وثمة حقيقة أيضاً أنه كان عرضة لمخاطر وتهديدات جسيمة طوال الوقت لأن الضباط النازيين واصلوا زياراتهم المفاجئة له. حتى قيل أنه عندما اقتحم ضباط الجستابو شقته في باريس سأله أحدهم، بعد مشاهدته للوحته الشهيرة جورنيكا بالأسود والأبيض، إن كان هو من قام برسم تلك اللوحة، أجابه بيكاسو:"كلا، أنتم من فعل ذلك"!.
كان هناك مسعى من جانب النازيين القول، حسناً بيكاسو في باريس، إذن كل شيء على ما يرام. لذا فقد كان مضطراً لاجتياز المياه الهائجة والمضطربة لأن الوضع كان خطيراً للغاية. والسؤال الحقيقي بالطبع الذي يمكن أن يُطرح على أي فنان، سواء كان عظيماً أو عادي، هو، هل سيضحي بحياته، وبالتالي بشيء أكثر من حياته، ألا وهو كل ما يريد رسمه، كل رسوماته المستقبلية...

ـ "أطفاله" كما كان يسميها.
ـ أطفاله، نعم. إذا كانت الأعمال الفنية هي بمثابة أطفالك، فهل يمكن أن تضحي بكل هذا الجمال الذي تمنحه لعيون العالم، من أجل انقاذ حياتك؟ ماذا يحدث لو أن أحداً ما جاءك وقال لك: هل يمكن أن تخّبأ شخص هذا؟ هل بوسعك أن تّزور مثل هذه الوثيقة؟ هل يمكن توّقع على التماس لإنقاذ صديقك المفّضل الذي سيتم ترحيله إلى معسكر الاعتقال أوشفيتز (ماكس جاكوب مثلاً)؟ هل يمكنك أن تنقذه.هل ستضع نفسك على المحك، أم ستنقذ نفسك من أجل أطفالك؟
أيهما الأفضل أن يكون لديك ثلاثون عاماً أخرى من نتاجات بيكاسو، أم أن يكون لديك بيكاسو كبطل حقيقي؟ كل تلك الأسئلة كانت تُطرح عليه طوال الوقت من جميع القوى. بعبارة أخرى، المسرحية تتحدث عن كل من حوله كان يسعى لجذبه في هذا الاتجاه أو ذاك.

ـ لماذا بقيَ بيكاسو في باريس حين دخلها النازيون، في رأيك؟
ـ السؤال هو: كيف يمكن للنازي أن ينصب فخاً لبيكاسو؟ لا تنسى أن بيكاسو كان محمياً، أقول كيف يمكن أن يعلق بيكاسو في شباك ذلك الضابط النازي؟

ـ هو جعله يرتكب خطئاً، حينها يستطيع أن… يعتقله أو يطلق الرصاص عليه.
ـ بالضبط. أنت تعلم بأن بيكاسو كان محمياً. ثمة مشهد في المسرحية يقول فيه القائد النازي، أن بريكر، وهو نحات هتلر الخاص، قال: "لا أريد أحداً أن يلمس شعرة من رأس بيكاسو". هذا يعني أنه كان يعرف أنه محمّي. وحين يسأل الضابط النازي لوشت قائده: "وماذا لو قام بقتل ضابط ألماني أو أخفى شخصاً من المقاومة؟"، يجيبه القائد: "آه، حينها بالطبع بامكانك فعل ما تريد"."وهذا بالضبط ما سأفعله" يقول لوشت، "سأقوم بقتل بيكاسو في ذات اليوم الذي جرت فيه محاولة قتل هتلر". لا تنسى أن ثمة محاولة اغتيال لهتلر حدثت في برلين. لذا حينها حتى هتلر نفسه لا يستطيع حماية بيكاسو. هناك مقطع حذفته من المسرحية وكنت قد استعرته حقاً من حديث لبيكاسو يقول فيه: "في اليوم التالي شاهدت إمرأة عجوز وقد ابتسمت لي بفم خال من الأسنان وقدمّت لي قطعة من الخبز، لكنني لا أستطيع أخذ تلك السيدة العجوز معي وتحّمل أعباءها".
لقد كنت أحدق في هذا المقطع من منظور المغترب أو المنفي. لا شك أنه كان خائفاً من العودة إلى إسبانيا رغم العروض المغرية التي تلقاها من أمريكا والمكسيك وغيرها. لقد غادر بيكاسو بلده أسبانيا ولم يعود إلى هناك على الاطلاق. وفكرة تركه هذا المكان ثانية، المكان الذي صنعه هو، وأعني باريس،
هي أسوأ عقوبة بالنسبة له. لذا أعتقد أنه قرر الانتظار ليتدبر الأمر الصعب هذا. وقد كنت أنا أيضاً في غضون فترة لجوئي في الولايات المتحدة أفكر بقوانين بوش بشأن الهجرة حيث كنت قلقاً حينها بإمكانية ترحيلي بوصفي مواطناً تشيلياً.
أناأعرف أن هذا الأمر يبدو غريباً جداً في بلد كأميركا، إلا إن ثمة نوعاً من الارهاب كان يحوم في الأجواء يشي بأن لا أحد مستثنى من هذه القاعدة فحتى المواطن الأمريكي من الممكن أن يكون دون حماية. حينها فكرت مع نفسي قائلاً: "سأفعل أي شيء على أن لا أغادر مجدداً. هذا هو وطني الآن"، لذا لعلني حينها كنت أمتلك ذات الإحساس الذي كان يمتلكه بيكاسو في أن لا أصبح لاجئاً مرة أخرى.

ـ هل تحاول القول إن المنفى في باريس كان بمثابة قيد فني فرضه بيكاسو ذاتياً على نفسه
ـ إطلاقاً. أعتقد أنه قد أدرك ذلك فقط في وقت لاحق. وهذا ما يدفعني لطرح السؤال الثاني وهو: "إلى ماذا سينتهى به الحال أخيراً"؟. لدي إحساس أنه لم يكن يدرك ذلك. إنها دورا مارا (*) هي من تقول له في بدء المسرحية:"يمكنك فقط أن تعمل وتعمل وتعمل. لن يكون هناك المزيد من إقامة المعارض، ولن يكون ثمة أحد ليقاطعك أو يزعجك". كان بيكاسو في ذلك الوقت هو الفنان الأكثر شهرة في العالم. والشهرة يمكن أن تكون عبئاً رائعاً بالنسبة لك. ويمكن أن لا تشكل عبئاً عليك فحسب بل تكون مرآةً خاطئة بالنسبة لك، وللسبب ذاته يمكن أن ينتهي بك الأمر في القيام بأشياء تؤجج تلك الشهرة بدلاً من أن تأجج لهيب الفن.

ـ أو يمكن أن تُخضِع المرء لرغبات الآخرين، ما يجعل صوته يتلاشى...
ـ أو ربما يصبح صوته مجرد تكرار لتلك الأصوات. حين تكون في حضرة الخوف الوجودي، الفراغ القابع هناك، الفراغ الذي يحدث كما أظن لنا جميعاً نحن الذين نكرس جهودنا من أجل الفن، يمكنك إما أن تحاكي ما هو سائد أو مشهور وتقوم بتكراره، أو يمكنك المضي قدماً والقيام بأمر مختلف.
هذا الأمر قد أدركه بيكاسو أخيراً، على الأقل في المسرحية. هذا الشبح الذي دعا الرجل الأعمى بلزاك أن يسأله: "ألا تريد أن تكون ما كنته في البدء من دون أن يكون أحداً وسيطاً بينك وبين الخوف"؟.
الفن ليس سوى رهان على الموت؟ أنت تضع الفن بينك وبين الموت. ضع ذلك في هذا المنظور، بمعنى آخر، إنها عودة ثانية إلى شبح الخوف. إنه قيد، لكنه يمكن أن يكون أيضاً دافعاً خلاقاً ومثمراً جداً. وبهذا المعنى أعتقد، لسوء الحظ، أن أعمالي الأدبية والفنية كانت تتغذى على المخاوف التي قاسيتها.
دعني أقل أنني لو لم أمر بسنوات المنفى وسنوات بينوشيه وسنوات الحرب لن أكن هذا الشخص الذي أصبحت عليه اليوم ككاتب وفنان. تلك السنوات هي التي جعلت مني شخصاً بوسعه على الأقل أن يدنو من بيكاسو أو يعالجه بشيء من التعاطف مع معضلاته.

ـ حينذاك ستصبح متعاوناً مع خوفك.
ـ أوه، نعم، تماماً. وقد كادت المسرحية حينها على وشك أن تسمى "المتعاونون"، إلا إنني فضّلت تسميتها بـ (مخبأ بيكاسو) لأنه أكثر إثارة.

ـ لماذا؟
ـ لأنه لم تكن هناك مخابىء على الاطلاق. كنت أريد أن أوحي أن ثمة شيئاً ما يسعى بيكاسو لاخفائه، شيء ما غير ظاهر للعيان هو بحاجة لأن يتم الكشف عنه. الجميع كان متعاوناً أو متواطئاً معه حتى أنا. أنا أيضاً موجود هناك من أجل قتله وبعثه ثانية.

ـ هل تشعر بشكل أو بآخر أن خبرات بيكاسو وتجاربه أثناء الحرب العالمية الثانية هي التي قتلته؟
ـ إلى حد ما، نعم. إنني أحذو حذو جون بيرغر (**) حقاً في هذا الشأن. أنا لا عتقد أن بيكاسو قد عمل شيئاً بعد الحرب يستحق الذكر مثلما عمل أثناءها حتى نهايتها. فهو لم يبدع عملاً مثل جورنيكا. لو عقدنا مقارنة بين جورنيكا والعمل الذي أنجزه عن الحرب الكورية أو تلك المناهضة للجرائم ضد الانسانية، سنجد أن ما أنجزه بعد الحرب في الحقيقة هو مجرد أعمال عادية جداً تفتقر إلى الالهام والإثارة فيما يتعلق بفنه السياسي، قياساً بأشياء أخرى. أعتقد أن بعض أعظم أعماله هي تلك التي أنجزها في باريس، مثل مجموعته التي تحمل عنوان "المرأة الباكية"، عام ١٩٣٧، وثمة لوحة جميلة بشكل خاص وهي بورتريه لإبنته الصغيرة مايا. في هذه اللوحة يمكن ملاحظة خلوها من أي توتر، ثمة إحساس بالرقص على حافة الهاوية، الإحساس الذي ظل يعتري بيكاسو دائماً حتى النهاية.
إنني أحب تنويعاته. هو شخصياً قال: "لن يكون هناك المزيد من الروائع، الأفضل أن أموت الآن، وآخر عمل فني لي ينبغي أن يكون موتي".
ألبرت لوشت، الضابط الألماني، خصمه وقاتله في المسرحية، يقول له في النهاية:"كل الأعمال التي لم تنجزها أبداً هي تنويعاتك" لكن ذلك لم يكن ذا أهمية بالنسبة له. بيكاسو قال لهذا الضابط الألماني: "إذا متُّ فسأكون أعظم من فيلازكز وغريكو وغويا".(***)

ـ نعم، إن جرأة لوشت على قتله، يقول بيكاسو في المسرحية، "تجعل منه إله".
ـ الإله هو الوحيد من يقرر موته. فهو، في هذا السياق، أشبه بالمسيح الذي يختار موته، ولهذا يصبح المسيح أعظم عمل فني وأحد أعظم الأعمال الفنية في الانسانية جمعاء. إن مسرحيتي برمتها هي بمثابة استكشاف متواصل للعلاقة بين الحياة والفن والحدود الغائمة جداً بينهما.

ـ في إحدى لقاءاتك قلتَ بأن المسرحية هي أيضاً بمثابة قصة حب؟

القسم الثاني في التتمة

هوامش

(*) دورا مار: هنريت ثيودورا ماركوفيتش (١٩٠٧ - ١٩٩٧) واسمها المستعار دورا مار: مصورة فوتوغرافية ورسامة وشاعرة فرنسية من أصل يوغسلافي كانت عشيقة وحبيبة بابلو بيكاسو منذ عام ١٩٣٦ إلى عام ١٩٤٤)

(**) جون بيرغر (١٩٢٦ ـ ٢٠١٧) ناقد فني انكليزي، روائي ورسام وشاعر. حازت روايته (G) على جائزة بوكر عام ١٩٧٢.

*** تتضمن دراساته النقدية للفنانين دراسة فريدة هي بعنوان " نجاح وإخفاق بيكاسو" عام ١٩٦٥ هي دراسة استقصائية لمسيرة الفنانين المجددين، كذلك دراسته "الفن والثورة: إرنست نيجيستني، القدرة على التحمل، ودور الفنان في روسيا" ١٩٦٩. عاش بيرغر في باريس أكثر من نصف قرن بعد مغادرنه بريطانيا بسبب نفوره من العيش فيها.

(***) دييغو فيلازكز (١٥٩٩ ـ ١٦٦٠) رسام إسباني وهو الفنان الرئيسي في بلاط الملك فيليب الرابع وأحد أهم الرسامين في العصر الذهبي الإسباني. كان فناناً يؤمن بالفردانية من العصر الباروكي المعاصر. رسم العديد من صور العائلة الملكية
الإسبانية وشخصيات أوروبية بارزة أخرى، وكذلك العامة، وبلغت أعماله ذروتها في لوحته الشهيرة لاس مينياس ١٦٥٦). دومينيكوس ثيوتوكوبولوس (١٥٤١ ـ ١٦١٤) المعروف على نطاق واسع باسم إل غريكو، نحات ورسام يوناني ومهندس لفترة النهضة الإسبانية.)