بيروت: تراهم في مقاهي خاصة &يحتسون قهوة يزيد سعرها عن الاعتيادي ثلاث مرات أو أربعة، وعادة ما تكون أجسامهم مشدودة ولا تزيد أعمارهم عن الخمسين، يرتدون ملابس لا مبالغة فيها ولا توحي بالبذخ ويشمل ذلك النساء اللواتي يظهرن عادة ببنطال أنيق من الجينز وقميص بسيط بلون واحد أو لونين، وينتعلن أحذية مسطحة ويحملن حقائب مصنوعة من قطن طبيعي.

ترى هؤلاء يقرأون صحفًا يحصلون عليها باشتراكات سنوية مثل نيويوركر أو نيويورك تايمز في الولايات المتحدة، ويتناقشون في قضايا عالمية مثل التكنولوجيا الحديثة وانعدام المساواة في العالم والاحتباس الحراري ومناصرة المرأة.

هذه هي الطبقة العليا الحديثة التي تسميها أستاذة السياسة العامة في جامعة جنوب كاليفورنيا إليزابيث كاريد-هوكيت "النخبة الثقافية" و"الطبقة الطموحة" في كتابها "مجموع أشياء صغيرة" The Sum of Small Things (272 صفحة، منشورات جامعة برينستون).

تضم هذه الطبقة أساتذة جامعيين وعاملين في منظمات غير حكومية وكتاب سينما وخبراء التكنولوجيا الحديثة وأطباء ومحامين مرموقين وفنانين ومخرجين ومترفين. وعادة ما يكون أغلب أفراد هذه النخبة درس في أفضل الجامعات ليملك بذلك ما يكفي من المعارف والقدرات كي يعتبر نفسه في مستوى أعلى من كل الآخرين.

استهلاك غير منظور

أفراد هذه النخبة امتداد للطبقة العليا السابقة، لكنهم يتصرفون بطريقة مختلفة جدًا إذ ما عادوا يعلنون عن أنفسهم وعن ثروتهم عن طريق اقتناء بضائع غالية مثل سيارة فارهة أو حقيبة يد أنتجتها دار أزياء عالمية معروفة.

السبب هو أن ظاهرة التملك والشراء أصبحت عامة حيث يستطيع أي شخص اقتناء أحدث سيارة بي أم دبليو ولو بالتقسيط. وحتى لو أرادوا شراء سيارة فسيهتمون بسيارات خاصة صديقة للبيئة مثل تيسلا الجديدة لأنها تعمل بالكهرباء أو مرسيدس "ايس يو في" لأنها تعمل بالديزل ثم أكثرها شهرة سيارة فولفو ستيشن التي يتفق كثيرون على أنها تعبر عن رغبة النخبة في عدم الإعلان عن الثروة التي تملكها ولذا أطلقوا عليها اسم "الثروة المخفية".

إذًا، النخبة الجديدة لا تعتمد على الإنفاق المفضوح بل على استهلاك غير منظور يركز على التعليم والتأمين الصحي وتربية الأولاد بشكل رئيسي. وتعرض الكاتبة بيانات تظهر أن أكثر أغنى 10 في المئة من أفراد هذه الطبقة يكرسون 20 في المئة من الإنفاق على استثمارات غير مرئية أو غير مظهرية فيما تخصص الطبقة الوسطى 9 في المئة فقط من دخلها لهذا الجانب. &

صفات أخرى

من الصفات الأخرى أن أفراد هذه النخبة العليا الجديدة لا يقودون سياراتهم بسرعة جنونية ولا يتباهون بممتلكاتهم المادية بشكل علني، لكنهم لا يرتدون ملابس مصنوعة في الصين بل ينتقون ما يعجبهم من نتاج مصممين محترفين وعادة ما تكون مصنوعة من القطن العضوي غير المعالج كيمياويا ومن الأفضل أن تكون مصنوعة محليا في لوس انجلس أو بروكلين مثلا.

هؤلاء يعرفون أيضًا الفرق بين أنواع البن المختلفة وقد يقفون في طابور عشرين دقيقة للحصول على فنجان قهوة مطحونة في معمل محلي ومحمصة بأجهزة تعود لفترة الأربعينيات والخمسينيات ومصدرها مزرعة يعرف المشرف على المقهى أصحابها وهو واثق من أنهم لا يستخدمون موادًا غير عضوية في إنتاجها كما يعرفهم مع أسرهم فردًا فردًا وبالأسماء.

ينتج كل هذا عن إيمان هذه النخبة بشفافية عمليات الإنتاج التي يشاركون فيها بأموالهم، وهو ما يبرر المبالغ التي يدفعونها مقابل الحصول على منتجات طبيعية وغير معالجة كيميائيًا. لكن هذه النخبة لا تقتني الغالي فقط فطلاء الأظافر المعروف باسم ايسي باليه سلبرس الذي طالما ميز نساء هذه النخبة منذ عقود يكلف ثمانية دولارات فقط وعادة ما يكون بألوان هادئة توحي بالرقي.

بيئة مختلفة

لا تمثل هذه الطبقة أكثر من 0.01 في المئة من السكان، لكنها تعيش في بيئة ثقافية مختلفة وأغلب أفرادها من أصحاب الامتيازات غير أنهم لا يعلنون عن كل شيء بل يتخذون قراراتهم الاقتصادية والاستثمارية بالكتمان بهدف إعادة إنتاج الثروة وتأمين استمراريتها بطريقة تضع الطبقة المتوسطة خارج الحلبة وبشكل مهين، بحسب قول الكاتبة.

أفراد هذه الطبقة يفكرون في مشاكل العالم وهمومه، لكنهم يرون أنهم لا يد لهم فيها ثم يحاولون طرح مقترحات عن كيفية الحفاظ على البيئة وحل القضايا الأخرى قبل أن يعودوا إلى منازلهم التي لا يقل سعر كل واحد منها عن مليون ونصف المليون دولار.

من مواصفاتهم الأخرى أنهم عادة ما يستخدمون موقع فايسبوك لعرض أشرطة فيديو عن رحلات قاموا بها برفقة أسرهم إلى جبال بعيدة أو قرى أو جزر لا يصلها إلا القليلون.

التعليم

أهم ما يميز هذه الطبقة هو التعليم الذي تلقاه أفرادها إذ تخرج أغلبهم من جامعات كبرى وهم يعتبرون أن ما يملكون من علم ومعرفة يمثل ضمانة مهمة في حياتهم حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون دخلا عاليا منهم.

ولأنهم يؤمنون بالتطور والعلم والمستجدات الحديثة تراهم ينفقون مبالغ طائلة على تعليم أولادهم ويستثمرون بهم. وتلاحظ الكاتبة أن إنفاق الأغنياء على التعليم ارتفع بنسبة 300 في المئة منذ عام 1996 فيما لم تسجل مثل هذه الزيادة لدى طبقات المجتمع الأخرى. ويدرك أفراد هذه الطبقة أن أولادهم سيكونون ضمان استمرار حالة التميز التي يتمتعون بها في المستقبل فنراهم ينفقون أموالًا طائلة على تنمية ذكائهم وعلى تعليمهم العزف على آلات موسيقية منذ سن الثالثة وتعويدهم على الرياضة منذ نعومة أظفارهم.

وتحرص الأمهات أيضا على إرضاع اطفالهن مدة عام واحد على الأقل، وتخجل الأسر من التحدث عن استخدام حليب الأطفال المصنع. إذا كانت الأم عاملة، محامية أو طبيبة، فعادة ما تستغل فترة الاستراحة عند الظهيرة لسحب الحليب من صدرها وإرساله لطفلها الرضيع.

نحن الأفضل

يعتبر أفراد هذه الطبقة أنفسهم نخبة حقيقية لأنهم يرون أنهم بشر خيرون يملكون وعيًا بيئيًا وعلومًا ومعارف وقدرات حديثة تسمح لهم بالتميز عن الآخرين، ويعتبرون الاستهلاك بشكله السابق والباذخ مجرد إسفاف وسوء تصرف يليق بالقرويين.

في الواقع، بحسب الكاتبة، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل دخوله البيت الأبيض يجسد كل ما تكرهه هذه النخبة بدءًا بشعره ولونه البرتقالي وتلهفه على شراء البضائع والإفصاح عن ثروته، ولأنه بدين وجاهل، لا يؤمن بممارسة الرياضة ويحصل على معلوماته من التلفزيون بالدرجة الأساس.

تلاحظ الكاتبة أن الآخرين في المجتمع يكرهون هذه الطبقة حتى تشكلت حركة سياسية عالمية ضدها. وترى أن أفراد هذه النخبة يعلنون عادة عن أنفسهم وعن انتمائهم الطبقي من خلال التوجه إلى أسواق المزارعين في الحادية عشرة صباحًا لشراء حبات طماطم لم تستخدم في إنتاجها هرمونات وأسمدة كيمياوية، ثم تشير إلى أن هذه الممارسة لو عمت، فلا بد أن تبحث هذه النخبة عن مكان آخر أو إجراء آخر يظهر تميزها.

&
أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن موقع "بوكس أند أيدياز". الأصل منشور على الرابط:

&https://booksandideas.net/Discreetly-Ostentatious.html