نصير عواد&

من سرداب ببغداد إلى سرداب بمدينة (گوتنگن) الألمانية يعمل الفنان مكي حسين بصمت وتواضع لافتين، اشبه بالصوفيّين الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ، تكشف تماثيله عن رؤية فنية محمّلة بمفردات رافدينيّة تمد خيوطها إلى فن النحت العراقيّ منتصف القرن الماضي.&

&الاعمال النحتية الــ(31) التي عُرضت بمدينة (گوتنگن) بتاريخ 17ـ 11ـ 2018 بحضور جماهيري كبير، وعزف هادئ لأنغام عراقية قديمة بعود (نزار رهك) كانت تمثّل المعرض الشخصيّ الأوّل للنحات مكي حسين في ألمانيا. صحيح ان فن النحت معروف بقلّة انتاجه وفي عدد عروضه وتسويقه إلا ان الظروف الصعبة التي عاشها الفنان مكي حسين، ماديّا وصحيّا واجتماعيّا، كذلك لم تساعده بالعمل والانتشار، فالمنفى ليس على الدوام ودودا مع أصحاب التجارب المؤلمة.
التماثيل التي عُرضت في گاليري( Alte Feuerwache) كانت من البرونز، تنوّعت فيها المواضيع والعناوين، ووزعت الألوان باقتصاد مدروس، كانت فيها الغلبة لعتيق البرونز. خمسة مصبوبات منها طُليت باللّون الذهبي في حين حضر الأحمر على استحياء عند قدميّ امرأة. مناخ العرض لا يخلو من مفردات الفنان، المربع والخط والكتلة المعبرة عن جدية المواقف وقوتها، إلى جانب موضوعات درامية أكثر اعتدالا من السابق، احتلت شخوصها مساحة هادئة من الحوار والتناغم والانسجام، فالنحت كباقي الفنون مرتبط بالغرض الوظيفي وبتغيّر إيقاع الحياة.&
& &
رغم ان الاعمال الــ(31) كانت معروضة في گاليري ( Alte Feuerwache) إلا ان سرداب الفنان لم يكنْ خاليا، فيه الكثير من المنحوتات الطينية التي تنتظر الخروج إلى ضوء الشمس، إلى جانب دفاتر خُطت عليها بأناقة اسكيچات لأعمال قادمة، وفيه أيضا ابريق شاي يطيب للنحات ان يسقي ضيوفه بيدين دافئتين. في المنحت تكوّمنا حوّل تمثال طينيّ ينتظر الصب، نصٌ بصريّ مليء بالإيحاء استقر على قاعدةٍ ثابتة، عنوانه (صرخة من عمق الجبال) موضوعه شهداء مجزرة "بشتاشان" التي وقعت احداثها بكوردستان العراق، في الأول من ايار عام (1983) والتي ارتكبها حزب الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ (أوك) ضد قواعد الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وقد ذهب ضحيتها العشرات من الشهداء والجرحى والاسرى. &
& & صرخة من عمق الجبال، لذكرى شهداء بشتاشان*
المجزرة عند النحات مكي حسين ليست ظنّا او نتاج مخيلة، بل كان هو أحد شهودها وضحاياها. شهد رحيل رفاقه الواحد تلو الآخر، شهد قتل الاسرى وقطع بنصر (أحلام) لانتزاع خاتم زواجها، إنه صور نفسه حين صور المجزرة. الجملة المفتاحية لتمثال الــ(صرخة من عمق الجبال) هي أجساد الشهداء، من دون رؤوس، على خلفية جبلية حفر الزمن خطوطه عليها، تروي حكاية الصمود وصعود الارواح. اجساد توحي بالقوة والشموخ، يتصاعد هذا الإيحاء عند الدوران حول التمثال، ولكن النحات لم يلجأ لعنصر المبالغة ولم يضفِ الاناقة على "أنصاره" بل أوقفهم بين صخور الجبل، كما كانوا يقاتلون ويعيشون حياتهم، بأجساد شاخصة وسيقان مشدودة، اعطاها شيئا من ملمح ساقيه، اضاءها التوازن الداخلي في توزيع الأجساد وتنظيم المسافة بينها.&
من الصعب انكار انه توجد تماثيل للنحات اكثر اعتدالا وجاذبية، ولذلك لا نستطيع القول بأن تمثال الــ(صرخة من عمق الجبال ) هو الأفضل والأكثر حضورا من بين اعماله الاخرى، فلكل تمثال موضوعه ولكل عين موضوعها. ولكن بالنسبة لمن وقفوا في المنحت يومذاك أظن الامر كان كذلك، فلقد حمل الكثير من ملامحهم وذكرياتهم. كان التمثال بالنسبة لأصدقاء النحات أكثر من "متعة" اخذوا منه وأعطوه، فبعضهم شهد المجزرة. كنّا ندور حول التمثال، وننصت لملاحظات الفنان عن فكرة وظروف نشأته. عيوننا تحاول أن تأخذ ما استطاعت من الأجساد الواقفة، فهناك على الدوام مركز بصري يجذب الاهتمام، رغم الضوء الخافت في السرداب. بعضنا بخبرته أدرك مغزى التمثال. وبعضنا الآخر، بصمت، استشعر حضور الموت. وبعض ثالث مس الطين بأطراف أصابعه تلبية لرغبة قديمة، في حين ذهب آخرون للبحث عن واقعية العمل وارتباطه بالحدث الجلل. اما الرأي الذي لم نقله في العلن أن مجزرة "بشتاشان" هي التي انتجت التمثال، وليس العكس. كان الدوران واسترسال المخيلات لم يغِض النحات ولم يوقف ابريق الشاي، فليس الجميع سمع صوت الضحايا بنفس الإيحاء.
إنّ تمثال الــ"صرخة من عمق الجبال" لا يصنع الهدوء والاطمئنان بقدر ما يقلق المشاهد ويستفز ذاكرته، بعد ان وثق مجزرة واحدة فقط، وسط عشرات المجازر التي بقيت طي النسيان. والسؤال هو كم من التماثيل نحتاج لتوثيق مجازرنا وإيقاف ماكينة القتل العراقية، فالقبائل السياسية لم تُلقِ سلاحها بعد، والقَتَلة لم يلقوا جزائهم العادل بعد، والضحايا ما زالوا دون شهادة وفاة أو شاهدة قبر. وسط هذه الظروف المعقدة والمستمرة منذ عقود كان الفنان مكي حسين (أبو بسيم) من أوائل الذين التحقوا بفصائل الأنصار الشيوعيّين، في ثمانينيات القرن الفائت، لمواجهة الديكتاتور. في الجبل فقد الكثير من رفاقه واحبته وحَمل ندوب ما زالت تلهيه حتى اليوم، تجلى ذلك في مواقفه الصريحة وذكرياته المؤلمة عن تلك الاحداث. عندما كان النحات يروي ذكّرياته عن تلك الفترة المضطربة كانت تبدو بعض الاحداث أكثر قسوة من تمثال "الصرخة" وأن النحات احتفظ لذاكرته بمرارات أخرى، ولكن هذا هو الضوء الذي خرج من روحه.&
صحيح ان المشروع الثقافي للنحات مكي حسين فرديا، مثل أغلب المشاريع الثقافية بالمنفى، إلا أن تجربته المحتدمة ربطت مشروعه الفني بالآخرين، ربطته بقضايا المجتمع الوطنيّة والسياسيّة، تجلى في اعمال ورؤى فنية غير منفصلة عن التجربة الحياتيّة، والتي نميل إلى تسميتها بالــ(الاجتماعيّة) أفضل من تسميتها بالبعد الايديولوجيّ. رغم القوة والتوتر المهيمنان على بعض التماثيل نجد النحات لم يتخلَ عن لمساته الجماليّة، ويمكن رؤية ذلك في أكثر من موضوع، إذ لا يمكن تجريد العمل وفصل الجمالي عن عناصر العمل الأخرى، السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. على العموم فان عنصر المعاناة ليس غريبا على الفن، ولا يمكن فصله عن الجمالي، ولكن الأعمال الفنية التي تتناول الحروب والبشاعات قد يكون من الاجحاف أحيانا التعامل معها على أسس جمالية فقط بعيدا عن حياة الفنان وطبيعة الظروف التي عاشها، فالفن منذ البدايات نشأ على علاقة بالواقع. إنّ التوتر الدرامي لتمثال الــ"صرخة من عمق الجبال" اشار إلى ابعد من الجمالي والسياسي، اشار إلى حقيقة ان النحات ما زال يعاني من تكدس وجوه الشهداء في مناماته، وان تلك الاذرع المرفوعة في التمثال عرفها عن قرب، صافحها وشاركها عمليات التحطيب والبناء وسحب "الباگردان"* على سطوح البيوت الطينية.&
مجزرة "بشتاشان" موضوع قديم ينتمي إلى تاريخ العراق ومستقبله، يندر أن تناوله الآخرون، وانحسر موضوعه بين صنّاع التجربة وضحاياها. رووه بأدواتهم، متكأين إلى ذاكرات انهكتها برودة المنافي. تارة يأتي موضوع المجزرة في كتابات الأنصار ومذكراتهم ورسائلهم الشخصيّة، وتارة أخرى نقرأه في قصائدهم وقصصهم، وثالثة نشاهده في لوحاتهم واشرطتهم السينمائيّة. وتساوقا مع ذلك فإن تمثال الــ(صرخة من عمق الجبال) للفنان مكي حسين يُعد إضافة جديدة في تخليد ضحايا مجزرة بشتاشان، في جزء منه إثراء لمعارفنا الثقافيّة وتطوير لمواقفنا الإنسانيّة ضد الحروب والمجازر، بعد ان صار الموت في بلداننا ألف القوم وياؤهم. وبالتالي على الأنصار وعوائل الشهداء والمنضمات الإنسانية العمل على صب التمثال بمعدن البرونز، بالحجم الذي يتناسب مع الأغراض.

* بشتاشان قرية على الحدود العراقية الإيرانية، قرب جبل قنديل، كانت مسرحا للمجزرة.&
*الباگردان كلمة كوردية تعني حجر ثقيل يتحرك اشبه بالعجلة، يجري سحبه على سطح البيت الطيني بعد سقوط المطر والثلج حتى لا يتسرب الماء من الشقوق.
&