عقب مرور 6 أعوام على إنهيار جدار برلين عام 1989، وتحديد في الثلاثين من شهر ديسمبر 1995، فقدت ألمانيا هاينار مولّر الذي يعتبره رجال المسرح، ونقّاده "خليفة" برشت، وأحدأكبر كتّاب الفنّ الرّابع في النّصف الثاني من القرن العشرين.فقد أعاد هذا الكاتب العاشق للسيجار الكوبي كتابة الأساطير القديمة لتكون متطابقة مع قضايا العصر الحديث.

وقد ولد هينار ر موّلر في منطقة "السّاكس" عام 1929،نفس العام "الأسود" الذي اكتسح أوروبا، وساعد النّازييّن على التّغلغل في أوساط العاطلين، والمفلسين، وضحايا الأزمة الإقتصاديّة العالميّة.وكانت والدته تعمل في معمل لصناعة النسيج. أمّا والده فكان إشتراكيّا. لذا تمّ إعتقاله من قبل الميليشيّات النّازيّة حالما استلم أدولف هيتلر كرسيّ الحكم عام 1933. وقد ظلّ مشهد إعتقال الأب حاضرا في ذاكرة الطّفل. وحين كبر راح يصفه، ويرويه من خلال أصوات مرعبة تشقّ اللّيل، و صوت أبيه الذي كان يناديه يائسا، ومفجوعا.أمّا الطفل فيتصنّع النوم، ولا يجيب. لذا ظلّ الإحساس بارتكاب جريمة الخيانة مبكّرا يعذّبه، ويؤرّقه حتى النهاية:” 31 جانفي -يناير، 1933. الرابعة صباحا. والدي الذي كان عضوا دئما في الحزب الإشتراكي-الديمقراطي الألماني تم إعتقاله وهو في فراشه. استيقظت. السماء خلف النافذة سوداء. وقع خطوات. في ناحية ما، كتب تلقى على الأرض. سمعت صوت والدي وكان اكثر صفاء من أصوات الغرباء. تركت الفراش، وتوجهت الى الباب. من خلال الفتحة، رأيت رجلا يصفع والدي. مرتجفا والغطاء يلف جسدي حتى الذقن، كنت في الفراش عندما فتح باب غرفتي.كان والدي خلف الرجال الغرباء ذوي القامات الفارعة، والذين كانوا يرتدون أزياء رماديّة.كانوا ثلاثة. أحدهم كان يشدّ على الباب بيده. سمعته ينطق باسمي بهدوء.لم أجب وظللت هامدا.ثم قال والدي:"إنه نائم!".سمعتهم يأخذونه، ثم سمعت وقع خطوات والدتي وهي تعود وحيدة".بعد أشهر، أطلق سراح الأب، فانتقل مع أسرته الصّغيرة إلى "فارن" في "ماكدوبورغ". وهناك أمضى سنوات البطالة تاركا إبنه يلتحق ب"الشبيبة الهيتليريّة"لكي يرتكب "خيانة ثانية".كما ساعده على كتابة موضوع إنشائيّ فيه يمجّد "الأوتوسرادات" التي كان يبنيها النّازيّون من أجل مجد الرّايخ الثالث. مع ذلك، ظلّ الوالد محافظا على قناعاته الإشتراكيّة.لديّة. ". وفي عام 1941،تمّ إيقاف والد مولر من جديد ليرسل إلى فرنسا ضمن كتيبة عسكريّة تأديبيّة. وفي ما بعد سيكتب هينار مولر:" الأب الذي مات كان يمكن أن يكون أبا جيّدا. الأفضل. الأب ولد ميّتا. دائما ينبت عشب على الحدود. العشب لا بدّ أن يجتثّ من جديد... العشب الذي ينبت على الحدود".وفي قصيدة أخرى سيكتب:"كم كنت أرغب في أن يكون والدي قرشا.ويكون قد مزّق أربعة صيّادي حيتان. وفي دمهم كنت أحبّ أن أتعلم السباحة.والدتي كانت حوتا أزرق.إسمي لوتريامون متّ في باريس عام 1871مجهولا".

في عام 1944،جنّد هينار مولّر رغم أنه لم يدرك بعد سنّ البلوغ،والتحق بالجبهة ليعيش تجربة مريرة تحت قصف طائرات الحلفاء في منطقة هامبورغ:”كانت الطائرات تمرّ فوقنا على علوّ خمسة عشر مترا. وبسبب قصفها الشديد لنا، كان علينا أن نختفي في أيّ حفرة تعترضنا.تلك كانت تجربتي في الحرب.وكان ذلك كافيا بالنسبة لي".وفي قصيدة له، كتب يقول مستحضرا المحرقة التي تعرض لها اليهود:

طفلا كنت أسمع الكبار يقولون :

باليهود يصنع الصابون

ومنذئذ وأنا أنفر من الصابون وأكره رائحة الصابون

اليوم أنا منكبّ على إخراج "تريستان"

أسكن شقة عصريّة في مدينة بايرويت

الشقّة نظيفة كما لم أر لها مثيلا من قبل

كل شيء في مكانه:

السكاكين والملاعق والشّوْكات والصحون والمقلاة والقدور والكؤوس والسرير لشخصين

والدشّ Made in Germany يوقظ الأموات.على الحيطان رسوم زهرية وألبية(نسبة الى جبال الألب-المترجم) رديئة.

النظام سائد،حتى الخضرة خلف البيت مرتبة بعناية

الشارع صامت. في الواجهة Hypobank

عندما فتحت النافذة في المرة الأولى: رائحة الصابون

البيت والحديقة ومدينة بايرويت رائحة صابون

أعرف، الآن، قلت أمام الصمت،ما معنى أن نقيم في الجحيم

ومعنى ألاّ تكون ميّتا أو قاتلا

هنا ولد"أوشفيتز" من ر ائحة الصابون

في عام 1951،غادر والد هينار مولّر إلى غرب ألمانيا.أمّا هو ففضّل البقاء ليعيش في ظلّ النّظام الشيوعي في ما أصبح يسمّى ب"ألمانيا الشرقيّة". وعندما سئل في ما بعد عن سبب إختياره ذاك، أجاب قائلا:”الضّرائب في الشرق أقلّ ثقلا من الضّرائب في الغرب".وبعد صمت قصير، أضاف قائلا:” هل تطلبون من فرنسيّ مثلا لماذا فضّل البقاء في فرنسا؟".وها هو في برلين الشرقيّة يعمل في الصحف بشكل منتظم، وينضمّ إلى إتحاد الكتّاب هناك، ويحاول أن يكتب. وفي هذه الفترة من حياته،كان يبدي تأثرا وضحا ببرشت.وفي قصيدة مهداة الى هذا الأخير كتب يقول:

حقّا لقد عاش في أزمنة مظلمة

الأزمنة أضيئت

والأزمنة أظلمت

عندما يقول الضوء أنا الظلام فقد نطق بالحقيقة

وعندما يقول الظلام أنا الضوء فهو لم يكذب

عقب وفاة برشت عام 1956،نشر مولّر نصّا حمل عنوان "الصّليب الحديديّ"، وأصبح أحد أعضاء أسرة تحرير مجلّة "الفنّ الشّابّ".ومع زوجته إنغة كتب مسرحيّة، وحصل على جائزة هاينريش مان.وعندما إنقسمت برلين إلى شطرين، منعت مسرحيّته الثانية "المهاجرة" فتمّ طرده من إتحاد الكتّاب، وانتحرت زرجته. غير أن مولّر لم يصب بالقنوط، بل واصل العمل مستندا إلى تراث الإغريق في هذه المرّة. وفي مطلع السبعينات غزت مسرحيّاته مسارح غرب ألمانيا، والعديد من العواصم الأوروبيّة ، خصوصا باريس، وزيوريخ. ..وخلال عام 1971،قدّم مولّر مسرحيّة شكسبير الشهيرة "ماكبث" غير أن الرقابة الشيوعيّة أصدرت قرارا بمنعها نظرا لنزعتها التشاؤميّة، المناقضة ل"التّفاؤل الإشتراكي". وعندما فرّ الشاعر،والمغنيّ الشعبيّ الشهير فولف بيرمان إلى غرب ألمانيا إحتجاجا على سياسة الحزب الشيوعي، سانده مولّر غير أنه رفض مغادرة برلين الشرقيّة.ورغم المضايقات الكثيرة التي كان ضحيّتها، ظلّ يتمتّع بهامش من الحرية. وقد سافر إلى أمريكا،وفرنسا،وسويسرا،وإلى بلدان أخرى ليحضر عروضا لمسرحيّاته. وبعد إنهيار جدار برلين عام 1989،صرّح مولّر بأنه لم يكن معاديا للإشتراكيّة، بل كان "مؤمنا بها إلى حدّ مّا".بسبب هذا التّصريح، شنّ عليه بعض المثقفين الألمان هجوما عنيفا متّهمين إيّاه ب"العمالة لجهاز المخابرات الشيوعيّة "ستازي" خلال فترة النظام الشيوعي. إلاّ أن مولّر لم يتأثّر بالتّهمة، وظلّ يشرب الويسكي،ويدخّن السيجار الكوبي الفاخر غير عابئ بالعاصفة.وعندما ألحّ عليه أصدقاؤه طالبين منه الردّ على التّهم،إكتفى بالقول:”نعم كانت السّلطات الشيوعيّة تطلب منّي من وقت إلى آخر رأيي في هذه القضيّة،أو في تلك...وكنت أجيب على الأسئلة رغم أنني كنت أعلم بأنني لا اتحدّث إلى ملائكة.كما كنت أعلم متى يكون الكذب مجديا ومفيدا"...عقب وفاة مولّر، كتب أوليفييه شميدت يقول:”مولّر بلا شك كاتب كبير بالمعنى الحقيقي للكلمة.فمن خلال قراءته لقدماء الإغريق، والرومان، وأيضا من خلال قصائده،ومسرحيّاته،وقصصه القصيرة، نجح في أن يكون خليفة شرعيّا لكلّ من برشت،وبيكت، وجينيه في نفس الوقت.فلقد إبتدع لغة جديدة إستطاع من خلالها أن يرسم صورة للعصر، وأن يكون شاعر الجراح الإنسانيّة في النصف الثاني من القرن العشرين".وكان مولّر قد قال ذات يوم:”في ألمانيا كلّ شيئ يحدث إمّا قبل الأوان،أو بعد الأوان.وفي هذا المجال، تكفيني قولة ماركس:"الألمان لن يكونوا أحرارا إلاّ يوم يرمون في القبر". ولا نعرف إن كان مولّر مات قبل الأوان أو بعد الأوان غير ان المؤكّد انه عاش حرّا في حياته رغم العراقيل،وكتب التراجيديا الألمانيّة بطريقة رائعة وفريدة من نوعها.