تهدد العولمة اليوم اللغات كلها بالاندثار خصوصًا الصغرى منها أو التي تتحدث بها قلة قليلة من الناس. ورغم مقاومة لغات عديدة لهجمة العولمة حفاظًا على هويتها إلا أن الانكليزية فرضت نفسها لغة التقانة والعصر وبات تجاهلها صعبًا.

إيلاف: مصير اللغات ومستقبلها وإمكانية حمايتها في ظلّ العولمة وهيمنة بعض اللغات ومركزيتها، هو محور الكتاب الصادر حديثًا من مؤسّسة الفكر العربي تحت عنوان "أيّ مستقبل للّغات، الآثار اللغوية للعولمة"، وهو من تأليف الباحث اللغوي الفرنسي لويس- جان كالفي، وترجمة الدكتور جان جبور.

يسعى مؤلّف الكتاب إلى بلورة ما أسماه "علم السياسة اللغوية"، الذي يساعدنا على الإجابة عن الأسئلة المعقّدة التي تطرحها العولمة في جانبها اللغوي. فالسياسات اللغوية برأيه، تشكّل "تدخّلات" تطال اللغة، أو العلاقات بين اللغات، لكنها ليست العامل الوحيد المؤثّر. 

علاقة سياسية 
إذ يمكن لدولة ما أن تتدخّل في نقاش حول قواعد الكتابة، وأن تقرّ قانونًا يحمي اللغة، وأن تحدّد الوضع القانوني للغاتٍ مناطقية. لكنّ هناك أنواعًا أخرى من الإجراءات لا ترتبط بالدولة، يقوم بها أفراد أو مجموعات، كالمشروع الذي قادته في منتصف القرن السادس عشر مجموعة من الشعراء الفرنسيين انضووا تحت لواء ما عُرف بـ ِ"البلياد" (الثريا)، أو العمل الذي قام به الكاتب أحمدو كوروما حول اللغة، والذي يقدّم إلينا في رواياته صيغة استحواذية أفريقية للغة الفرنسية. 

إلّا أنه في السياسة اللغوية، يجهل صُنّاع القرار في غالبية الأحيان ماذا يفعلون، أو أقلّه لا يدركون الترابط الإيديولوجي العام لاختياراتهم التجريبية. وهذه النقطة هي ذات أهمّية قصوى بالنسبة إلى علم السياسة اللغوية، الذي يتولّى الكشف بالتحديد عن خلفية السياسة اللغوية، والذي يمكنه بالطبع، حين يتوجّه إلى صنّاع القرار، أن يُسدي إليهم النصح.

من المقاربة التي قام بها على الصعيد النظري، ينتقل الكاتب إلى دراسة حالات كلّ من تركيا والاتحاد الأوروبي والأرجنتين وكورسيكا، ليُظهر بأنّ المسألة اللغوية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوضع السياسي، فحين يكون وراء المطالبة اللغوية مشروع سياسي، من الملائم مقاربته في الميدان السياسي. 

موت اللغات
من هنا، يقترح خبراء نظامًا للمساعدة على اتّخاذ القرار في مجال السياسات اللغوية، يقوم على وضع "تصنيف للحالات اللغوية والتدخّلات في هذه الحالات" انطلاقًا من تحليل نقدي لما تمّ القيام به، من أجل وضع قاعدة بيانات أولًا، وربما بعدها نُعدّ نظامًا مُبرمجًا إلكترونيًا نُضمّن فيه الحالات الإقليمية والوطنية والدولية وفق "صيغ" أو "معادلات".

وهو يُدخل في هذا التصنيف كلّ المعطيات والبارامترات المفيدة (الوضع الإحصائي للّغات، علاقات اللغات في ما بينها، العوامل الحضرية، المعايير والتمثّلات، السياسات اللغوية..) لأن الهدف النهائي هو مزدوج الأبعاد: جمع الوثائق عن كلّ الحالات اللغوية في العالم، يمكن أن نرجع إليها في أكثر من مسألة؛ وإنجاز نظام خبرة متخصص، يقدّم إلينا الحالات المشابهة في كل أنحاء العالم.

يطرح الكاتب مسألة موت اللغات، معتبرًا أن اللغات التي تندثر تؤشّر إلى حالات تتلاقى فيها عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، لتدفع بالمتكلّمين إلى الاستغناء عنها تدريجيًا، فتبطل أن تكون لغات "ناشرة" (أيّ لغة التواصل المشتركة) شيئًا فشيئًا. 

إن المتحدّثين هم أيضًا مسؤولون، بفعل اختيارهم لعدم التكلّم بلغة ما، حتى وإن كان هذا التخلّي الجزئي قابلًا للتفسير من خلال عوامل اجتماعية وتاريخية. هذا يعني أن الإنسان في علاقته باللغات التي يخلقها ويعتني بها يوميًا، يتمتّع بنوع من الحرية، ويتحمّل شيئًا من المسؤولية. ليس الإنسان هو الذي يتوقّف عن نقل لغته فحسب، وإنّما موازين القوى هي التي تفرض عليه هذا التخلّي أيضًا. لكن هل تتوجّب حماية كل اللغات، واعتبارها متساوية، ومنعها من الانقراض؟.

لا مساواة إحصائية واجتماعية
يؤكّد كالفي أن القول إن جميع اللغات متساوية هو أمر لا جدال فيه، كما إنه أمر أجوف على حدّ سواء. فجميع اللغات متساوية بنظر اللغويين، بما في ذلك بطبيعة الحال اللغات التي يسمّيها البعض "لهجات"، "كريولية"، "عامّية"، وما إلى ذلك؛ أي إنها جميعها لغات، وهي كلّها تستحق أن توصّف، مهما كان وضعها، وانتشارها وصيتها. 

لكن، وبعيدًا عن هذا المنحى المثالي، يبيّن تحليل الحالات اللغوية في العالم أن اللغات غير متساوية إلى حدّ كبير. فهي في البداية غير متساوية من الناحية الإحصائية، إذ إن بعضها يُستخدم في الكلام من قبل أناس كثيرين جدًا، فيما قلّة من الناس تتكلّم لغات أخرى. وهي غير متساوية من الناحية الاجتماعية، إذ يقتصر استخدام بعضها على وظائف محصورة، أو هي غير مكتوبة أو غير مستخدَمة في التعليم، فيما لغات أخرى هي لغات مهيمِنة، وتؤدّي وظائف رسمية، وأدبية، وثقافية، ودولية، أو تواصلية. وهي في النهاية غير متساوية من ناحية التمثّلات التي تختزنها.

ويرى كالفي أن بعض اللغات تُعتبر مرموقة، وغيرها لا، بعضها يطالب المتكلّمون بها أن تُعتبر لغات هُويّة، فيما يتخلّى متكلّمون آخرون عن لغاتهم، ولا يعملون على نقلها إلى أولادهم، ويفضّلون لهم اكتساب لغة أخرى. والعولمة التي تزيد من أعداد شبكات التواصل، تُعمّق التفاوت بين اللغات، وتعزّز وضع اللغة المفرطة في مركزيتها، الانكليزية، على حساب اللغات الطَرَفية. 

من هذه الناحية، فإن البند الخامس من "الإعلان العالمي للحقوق اللغوية" الذي ينصّ من حيث المبدأ على أن لكلّ الجماعات اللغوية حقوقًا متساوية، بغضّ النظر عن الوضع القانوني أو السياسي للغتها، أكانت رسمية، إقليمية أو لغة أقلّيات، هو بند ودّي ربما، إلّا أنه غير واقعي تمامًا.

لخدمة البشر
وإذا كانت اللغات غير متساوية في الواقع، فهل يتوجّب علينا أن نكافح من أجل مساواتها؟، هل بإمكان السياسات اللغوية "حماية" اللغات المهدّدة بالانقراض، وهل يتوجّب عليها ذلك؟، فإذا كانت اللغات نتاج ممارسات اجتماعية، وإذا كانت موضوعة لخدمة البشر، فيتوجّب علينا حين نقرّر الدفاع عن لغة، وحمايتها أو تعزيزها أن نتساءل أولًا ما هي الفائدة المرجوة للناطقين بها، وما هي وظيفتها الاجتماعية. 

يجب أن نسأل أنفسنا عن الحاجات اللغوية للسكان، وعن الوظائف الاجتماعية للّغات التي يستخدمونها: إن الإدارة السياسية للّغات تمرّ بتحليل وظائفها العملية والرمزية. لا يمكن لأيّ لغوي أن يَسعد لاندثار لغة، لكن ذلك لا يعني أنه يتوجّب علينا بشكل منهجي، وبنوع من التعنّت المَرَضي، حماية أشكال لغوية هجرها الناطقون بها.

ويخلص المؤلّف إلى السؤال المحوري: أيّ مستقبل لغوي للعالم في ظلّ العولمة؟. ويرى أن الأوضاع اللغوية تتغيّر باستمرار، ومهما كانت عملية المسح دقيقة، فإنها لا تلبث أن تتبدّل بسرعة. والعوامل التي توثّر في هذه التغيّرات متنوّعة، ولا يمكن لعامل وحده أن يفسّرها. فهناك الديموغرافيا، والنقل، والتحضّر، وسياسات الدول، والتكنولوجيات الجديدة، التي حوّلت العالم إلى "سوق" تحظى فيه اللغات بتراتبية، إذ يكون بعضها في قلب النظام العالمي، لأن عليها الطلب الأكبر، وبعضها الآخر على الطرف أو الهامش، ويتمّ التخلّي عنها شيئًا فشيئًا.

توجهات متطرفة
يؤكّد الكاتب أنّ عملية تقدّم أو تراجع اللغات كانت موجودة على الدوام، لكن العولمة حوّلت ظاهرة ظرفية إلى ظاهرة بنيوية. إنها تميل إلى خلق فجوة بين المركز والأطراف، فتتسبّب ببروز ردود فعل طوائفية، مما يشجّع على ظهور التعبيرات الهُوّية المتشدّدة. 

كلّ ذلك يرسم مستقبلًا لا تكون فيه، في مواجهة لغة العولمة، إلّا لغات إقليمية، هُوّية، بعد أن تكون اللغات الفائقة المركزية، كالفرنسية والإسبانية والبرتغالية والعربية، قد أُنهكت أو على الأقلّ وُضع حدٌّ لتوسّعها ولوظائفها. ليس "موت" اللغات إذًا هو الذي يميّز العولمة في جوانبها اللغوية، وإنما بالحري إعادة توزيعها الوظائفي، بحيث تتحوّل سوق اللغات ببطء إلى سوق زائفة، لن يُفسَح لنا فيها قريبًا أي مجال للاختيار: من جهة، نحن نكتسب لغة لا نختارها، تُنقل إلينا عبر أهلنا، ومن جهة ثانية، ستُفرض علينا بطريقة أو بأخرى لغة العولمة، اللغة الانكليزية. 

في مواجهة الجانب اللغوي للعولمة، يمكن للسياسات اللغوية أن تتراوح ما بين برامج طموحة ومُكلفة (مثل مشاريع التحالف بين المجموعات اللغوية كالفرنكفونية والإسبانوفونية والعربوفونية...)، وعمليات محلّية ذات طابع نضالي. 

فرصة بقاء
في الحالة الثانية، ليس المطلوب أن نضع اللغات الطَرفية على مستوى اللغات الفائقة المركزية، ونمنحها المكانة نفسها، لأن مشروع كهذا سيكون غير واقعي إلى حدّ بعيد. 

في المقابل، إذا تضافرت جهود الغالبية العظمى من المتحدّثين بلغة معيّنة من أجل الدفاع عنها، يمكن أن يأملوا في إعطائها فرصة للبقاء في "سوق اللغات". من هنا، فإنّ التحليل الموضوعي لكلّ حالة يجب أن يُظهر لنا ما هو الممكن، والمفيد، والمرغوب فيه، وما هو عديم الفائدة. فالاعتقاد مثلًا أنّ بإمكاننا استخدام كل لغات العالم لتعليم الأطفال هو أمل موهوم؛ كما إنّ إفهام المجتمعات اللغوية أنّ بإمكانها، إذا رغبت في ذلك، العمل بعكس مسار العمليات المرتبطة بالعولمة، يشكّل بحدّ ذاته أسلوبًا أو طريقة لحثّها على تحمّل المسؤولية في التأثير على الحالات اللغوية وعلى تطوّرها.