يبحث البشر عن الصمت ولا يجدونه، وسط ضوضاء هذا الكوكب الكبير، فالجنس البشري يستنزف نفسه في ضجيج قد لا يستطيع الهرب منه. فهل صار الصمت مستحيلًا؟.

إيلاف: من موضوعات العصر، على الأقل في العالم المتطور، أن البشر يبحثون عن الصمت ولا يجدونه. فضجيج السير ورنين الهواتف الذي لا يتوقف، والمعلومات التي تُعلن في الحافلات والقطارات، وصوت التلفزيون المسموع حتى في المكاتب الفارغة، كلها هجومات لا نهاية لها على عقولنا وسبب للتشويش على تركيزنا. وبذلك يستنزف الجنس البشري نفسه بالضوضاء ويتلهف على نقيضها، سواء في البراري أو المحيطات أو زواية مخصصة للسكون وإمعان التفكير بهدوء.

الصمت كيان مستقل بذاته عن أي ضوضاء

يكتب البروفيسور آلان كوربان، أستاذ التاريخ في جامعة السوربون، وايرلنغ كاغي، المستكشف النروجي، من مذكراته عن القطب الجنوبي، حيث حاول الاثنان أن يهربا من الضوضاء.

كما يقول كوربان في كتابه "تاريخ للصمت" A History of Silence (ترجمة جان بيريل، منشورات بوليتي، 147 صفحة، 19.95 دولارًا)، فإن الضوضاء كانت دائمًا موجودة، وربما أكثر من اليوم، لكن ما تغير ليس مستواها الذي كان مبعث شكوى خلال القرون الماضية كذلك، وإنما مستوى الإلهاء عن التركيز الذي صادر فضاء الصمت.

ليس غياب الضوضاء
هناك مفارقة أخرى، إذ عندما يسود الصمت في أعماق غابة أو صحراء أو غرفة مفرغة، فكثيرًا ما يثير الأعصاب بدلًا من أن يكون محل ترحيب. يتسلل الخوف إلى النفس، وتتشبث الأذن غريزيًا بأي شيء، سواء أكان هسيس نار أم نداء طير أم حفيف أشجار لإنقاذها من هذا الخواء المجهول. فالبشر يريدون الصمت، لكن ليس بهذا القدر.

يرى كوربان أن الصمت ليس غياب الضوضاء فحسب، بل شيء قائم بذاته. وكما كتب الشاعر ريلكه، فالصمت قد يكون الوسط الذي من خلاله ندخل واقع الأشياء.

ومن خلال صمت جرة كيتس اليونانية القديمة يأتي القارئ إلى أغان مختفية، ومن خلال الأحجار التي يحتفظ بها المستكشف كاغي على منضدته يدخل وجودًا معدنيًا عميقًا نشأ عبر دهور من الزمن، كما يقول في كتابه "الصمت: في زمن الضوضاء" Silence: In the Age of Noise (ترجمة بيتي كروك، منشورات بانثيون، 160 صفحة، 19.95 دولارًا). أو أن الصمت قد يفتح المستمع على واقع نفسه المجهول، على كون في الداخل لا نهائي كالنجوم.

الصمت الاجتماعي
لكن كوربان نفسه يحجم أحيانًا عن الغور في هذه الأعماق، وإلا ما كان ليمضي هذا الوقت كله في اقتباس كتّاب يطلقون صفة الصمت على كنيسة أو غابة أو شارع. وهو يكتب فصولًا متعددة تتناول ما يُسمى "الصمت الاجتماعي" أو عندما ينعزل المرء ذهنيًا أو يعقد لسانه في موقف أو دهشة تعقد له لسانه.

اللوحات التي يختارها لتوضيح ذلك هي من هذا النوع من الصمت الذي يأتي من ابتعاد آخرين: رواد حانة مغتربون أو عشاق غارقون في التفكير أو لوحة إدوارد هوبر التي تصور عاملًا في محطة وقود يؤدي واجبه في الغسق صامتًا صمت المضخات.

كاغي الذي تكون أشكال صمته سريعة ومفروضة ذاتيًا في السيارة أو الحمام أو حين تجتمع العائلة حول مائدة الطعام، يفضل الصور الفوتوغرافية للسماء أو الجبال أو الفضاء أو غير ذلك من الصور التي بدلًا من التعبير عن الصمت تختزل القارئ إليه.

جدار من ورق
قد تكون الصور أجدى من الكلمات التي يعلو عليها الصمت. ويحاول الكاتب أن يبني "جدارًا بحريًا من الورق في مواجهة محيط من الصمت". والملاحظات التي تفوت والعبارة غير المحسومة والكلمات التي تبقى معلقة كثيرًا ما تكون بليغة، لكن ليس بطريقة يمكن تفسيرها.

أفضل أشكال استحضار الصمت في الأدب هي تلك التي لا تُلفظ الكلمة فيها أبدًا، توصيفات ريكله لبتلات الورد على الجفون أو الجملة التي يختتم بها جيمس جويس كتاب "أهل دبلن".

يتأمل كوربان في الصمت بوصفه وسطًا تأتي منه الكلمات: مثلما انبثق الضوء والخلق من الظلام في القصص التقليدية أو مثلما يجد البعض من الضروري أن يفكروا ويكتبوا في أجواء هادئة بلا أصوات. من جهة أخرى، يشير كاغي إلى أن المعرفة بنظر أفلاطون وأرسطو تكمن حيث تتوفى الكلمات. وقد لا تبدو ملاحقة الصمت بشِباك الكلمات مجدية. لكن تبقى للصمت وظيفة علاجية في عصرنا، حيث يبدو جزءًا من الراحة التي توفرها الأشياء البدائية أو الأزلية.

​أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "إيكونوميست". المادة الأصل منشورة على الرابط أدناه
https://www.economist.com/books-and-arts/2018/05/19/people-crave-silence-yet-are-unnerved-by-it