دولة داخل دولة، عصابة داخل مافيا... هذه هي الصورة التي يرسمها مارك غاليوتي لروسيا فلاديمير بوتين في كتابه "ذا فوري: المافيا الروسية الجبارة".

إيلاف من بيروت: أُطلق على الحكم في روسيا في عهد فلاديمير بوتين تسميات عدة: حكم اللصوص، حكم الاستبداد ما بعد الحداثوي، أو كما وصفه باراك أوباما في تصريح تهكمي غير موفق، القوة الإقليمية. لكن اللقب الذي ترسّخ في عقول الجميع كان ذاك الذي أطلقه مدّعٍ عام أسباني في جلسة محاكمة في قضية جريمة عصابات، حيث وصف روسيا الحديثة بـ "دولة المافيا". 

مع وصول بوتين إلى الحكم تمت تصفية أو تهميش جماعة "ذا فوري" الأكثر استقلالية

التوصيف قوي، لكن ما الذي يعنيه فعليًا؟. يعطي الخبير في هذا الموضوع الضبابي مارك غاليوتي الإجابة الأفضل. فكتاب "ذا فوري: المافيا الروسية الجبارة" The Vory (منشورات جامعة ييل؛ 344 صفحة ؛ 28 دولارًا و20 جنيهًا إسترلينيًا) هو دليل إرشادي شامل وواضح عن تداخل الجريمة والسياسة في روسيا. 

سوكي وغولاغ
تشكّلت أعراف عالم الجريمة وقوانينها غير المكتوبة في أيام القياصرة، حين كان الخدم - يشكلون شريحة كبيرة من السكان - يتبعون قاعدة في حياتهم تشجع على خداع الأسياد الاقطاعيين بين الحين والآخر.

في هذا السياق، كتب غاليوتي: "لم تكن سرقة الحطب من مالكي الأراضي أو من غابات القيصر خطيئة". واستمرت تلك الروحية الشعبية في ظل السخرية المتبادلة في العلاقات بين الحزب الشيوعي ومواطني الإتحاد السوفياتي. وساهم الشح وغموض المستقبل، والفجوة بين العقيدة السوفياتية والممارسة، في ازدهار التنظيمات الإجرامية. وكما هي الحال إجمالًا، أثبت السجن، المسمّى "الأكاديمية"، أنه عامل مساعد على تدريب المجرمين وتعليمهم في بيئة مشتركة. 

في بادئ الأمر، كان "اللصوص" السوفيات، وهو تعبير مفضّل لوصف السلطات الجنائية، يتهيّبون الحكومة، ويمنعون التداخل بين مساعيهم "النبيلة" وأعمال الدولة. 

كانوا ينظرون نظرة دونية إلى الذين كانوا يتحالفون مع أجهزة الدولة ومسؤوليها، ويصفونهم بالـ "سوكي"، أو الساقطات. لكنّ فظاعة معسكرات ستالين، "الغولاغ"، أنهت ذلك المنع، وفتحت بابًا أمام "جيل جديد من الـفوري" للتعاون مع المسؤولين الحزبيين الفاسدين، عندما كانوا يرون في ذلك مصلحة لهم. كان لهذا التحول أثر كبير، ليس في عالم الجريمة فحسب، بل في البلد كله، وربما أيضًا في العالم.

منتج سيء السمعة
في ثمانينيات القرن الماضي، حطمت حركة "بيريسترويكا" التي نظّمها ميخائيل غورباتشيف الدولة، وأطلقت العنان لقوى جديدة في السوق، وتبيّن أن الـ"فوري" هم الأفضل تموضعًا لاستغلالها. أثبتت النسخة الهوبزية المضطربة، والعنيفة غالبًا، من الرأسمالية التي أعقبت ذلك، أنها الحاضنة المثالية لمنتج أصبح سيّئ السمعة: "المافيا الروسية". 

ووصل السيد بوتين إلى سدة الرئاسة متعهدًا بإعادة سلطة الكرملين. فتمت تصفية أو تهميش جماعة "ذا فوري" الأكثر استقلالية، بينما تمّ احتضان الـ"فوري" الآخرين، شرط أن يراعوا القواعد الجديدة للعبة: تجنب العنف المهدد للاستقرار، والخضوع لمصلحة نظام بوتين، "العصابة الأكبر في البلد".

جمعت الدولة قواها، كما يقول غاليوتي، من خلال استيعاب عالم الجريمة، لا ترويضه فحسب؛ يمكن القول إنه تم تأميم العصابات جزئيًا، وتبنّت الدولة بعض أساليبها. 

في الواقع، تأثر العالم بأسره، وليس روسيا فحسب، بهذا الانصهار بين الدولة والعصابات. ويكتب غاليوتي كيف ساعدت الشخصيات والتنظيمات الإجرامية الكرملين في عملياته شبه المستترة في أوكرانيا. وكان قراصنة الشبكة العنكبوتية الآتون من خلفية إجرامية يشكلون قوة خفية تنفذ مهمات لمصلحة الدولة من دون ترك أي أثر.

رواد سلسون
الجدير بالذكر أن نظرة غاليوتي إلى الـ "فوري" اليوم هي أنهم لم يعودوا عصابات الماضي الفجة والمكسوة بالأوشام. بل هم رواد سلسون، أذكياء، وعلى علاقة جيدة بوزراء الحكومة الروسية والرأسماليين الغربيين. ويشير غاليوتي إلى أنهم ليسوا معنيين بتحدي الغرب أو التقليل من شأنه، بل بالتمتّع بالفرص التي يوفرها الغرب لهم.

هذا يعني أن السياسيين ورجال الأعمال الغربيين، المصرفيين والمحامين وسماسرة العقارات، هم المسؤولون عن تحديد مدى قدرة "ذا فوري" على اختراق مجتمعاتهم. 

يسأل غاليوتي إذا كانت المؤسسات الغربية قادرة على مقاومة النزعة الشائعة إلى غضّ النظر عن المال المشبوه؛ فثقافة "ذا فوري" وتقاليدهم قد تكون روسيّة، لكنّ النزعة إلى جني المال السريع بعيدًا عن الأنظار موجودة في كل العالم.


أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن "إكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/books-and-arts/2018/05/19/inside-vladimir-putins-mafia-state