لم تشهد بريطانيا الإرهاب الثوري مثل فرنسا أو أوروبا الشرقية، أو الجنون الجماعي مثل ألمانيا. هذا تاريخ يدعو إلى الفخر. وبسبب هذا الفخر يقوم البودسنابيون باستبعاد الدول الأخرى واحتقارها. أمّا مبدأ نقيضي البودسنابية فيعتمد على الإنفتاح على الأفكار والمثقفين الأجانب.

جون بودسناب شخصية ثانوية في رواية تشارلز ديكينز الأخيرة "صديقنا المشترك"، لكن من المستحيل نسيانه. وهو مقتنع أن إنكلترا هي الأفضل من بين جميع الدول، وباقي العالم مجرد "غلطة". إن ﺣﻜﻤﻪ اﻟﺜﺎبت ﻋﻠﻰ عادات وأﺧﻼق اﻟﺒﻠدان اﻷﺧﺮى هو أنها "ليست إنكليزية"، وهو يقولها "ملوّحًا بيده ومع احمرار في وجهه". وعندما يلتقي برجل فرنسي على العشاء، فهو يعطي "المولود الأجنبي للأسف" محاضرة عن "الدستور البريطاني". "نحن الإنكليز فخورون جدًا بدستورنا... لقد منحتنا إياه العناية الإلهية. لا بلد آخر مميّزًا بقدر هذا البلد".

البودسنابية ونقيضها
وجدت كلمة البودسنابية Podsnappery طريقها إلى قاموس أكسفورد الإنكليزي. لكن كما أشار إ.بـ. تومبسون، وهو مؤرّخ ماركسي، فإنّ العديد من الإنكليز يعانون من التشّوه المعاكس: نقيض البودسنابيّة. وهذا ينبع من فرضيّة أن البلدان الأخرى هي متفوقة في كل شيء (لا سيما عندما يتعلق الأمر بالغذاء والجنس)، وبريطانيا مروّعة بلا حدود. 

نقيض البودسنابيّة شائع بشكل خاص بين أفضل الطبقات. ثمة شيء في التعليم الباهظ في المدارس الخاصة وأكسبريدج يجعل الناس يحتقرون بلدهم. إن كمًّا محبطًا من الأدب الإنكليزي هو نسخة موسعة من شكوى سيريل كونولي من أن إنكلترا هي "حضارة تحتضر- تنحطّ لكن بالطريقة المملّة اللعينة".

الجدير بالذكر أن تصويت البركسيت قد قسّم بريطانيا بالمثل إلى معسكرين: فالبودسنابيّون مسرورون أن إنكلترا تنفصل عن القارة، مع بيروقراطييها المتطفلين والشفرة القانونية النابليونية (قد يقول البودسنابيّون "بريطانيا" لكنهم فعليًا يعنون "إنكلترا"). بينما يعتقد مناقضو البودسنابية أن بريطانيا ترفض القيم العالمية لمصلحة فكرة إنكلترا الصغيرة. وما يجعل الحجة محبطة هو أن لكلّ منهما وجهًامحقًّا.

افتخار واحتقار 
وهكذا يبدأ البودسنابيون بالنقاط الجيدة. لبريطانيا تاريخ محظوظ بشكل فريد. لم تشهد الإرهاب الثوري مثل فرنسا أو أوروبا الشرقية أو الجنون الجماعي مثل ألمانيا. فقد ابتكرت طرقًا لتقييد سلطة الدولة من خلال البرلمان والقانون العام قبل أي دولة كبيرة أخرى. وأدّت الدور المحوري في إنقاذ القارة من ألمانيا النازية. هذا تاريخ يدعو إلى الفخر.

لكن هذا المنطق يتحول إلى كلام فارغ عندما يردد البودسنابيون وجهة نظر بطلهم بأنّ بريطانيا تمتلك هذه الفضائل "مع الاستبعاد المباشر لبلدان أخرى"، أو عندما يعتقدون أن افتخارك ببلدك يعني احتقار البلدان الأخرى. أنه لشيء غريب في بريطانيا الحديثة أن الممارس الرئيسي لتحويل المنطق إلى كلام فارغ - السيد بودسناب في اللّباس الحديث - يجب أن يكون وزير الخارجية. يبدو أن بوريس جونسون ينظر للأجانب على أنهم شخصيات مضحكة، ويحب أن يشير إلى أن كل الأشياء الجيّدة تم اختراعها في بريطانيا. 

خلال أولمبياد 2008، ادّعى أنه على الرغم من أن الصينيين قد يكونون أبطالًا في تنس الطاولة، لكنّ اللعبة قد "اختُرعت على طاولات الطعام في إنكلترا في القرن التاسع عشر... وكانت تسمى"ويف- واف". 

الإنفتاح والتفكير المزدوج
كذلك فمناقضو البودسنابية يبدأون أيضًا بالنقاط الجيدة. يشوب التاريخ البريطاني الامبريالية والاستغلال. والفضيلة العظيمة لبريطانيا هي إنفتاحها على الأفكار والمثقفين الأجانب. لقد صوّت بعض الناس لصالح البركسيت لأسباب مخزية. 

لكنّ مناقضي البودسنابية يتمادون بشكل سخيف في الرؤى الجيدة. وفي إحدى المرّات، نشرت إيميلي ثورنبيري، وهي الآن وزيرة الخارجية في حكومة الظل، تغريدة تسخر من "سائق الفان الأبيض" الذي أحاط منزله بأعلام القديس جورج. يؤكد توم غان، محرر New Socialist، أن "بريطانيا تضمّالمكان العام الأكثر تدهورًا أخلاقيًا وفكريًا والأكثر إذلالًا في العالم". 

وقد وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة YouGov في أكتوبر الماضي أن 46 في المئة من سكان لندن اعتبروا "اللندنية" هي هويتهم الأساسية، و25 في المئة اعتبروا أن الأوروبية هي هويتهم الأساسية، و17 في المئة صوّتوا للهوية البريطانية، في مقابل 12 في المئة فقط للهوية الإنكليزية.

يتميّز مناقضو البودسنابية بالتفكير المزدوج عندما يتعلّق الأمر بالقومية. على الرغم من أن القومية الإنكليزية هي مجموع كل الشرور، فإن هناك أشكالًا أخرى من القومية (الإيرلندية، الاسكتلندية، الفلسطينية) يتمّ تبنّيها بحماس. هم معروفون أيضًا بالضيق في أفق التفكير. وهم أقل اهتمامًا في البلدان الأخرى من فكرة استخدام هذه البلدان لمهاجمة بلدهم. في الماضي، كانوا يركزون على الاتحاد السوفياتي كوسيلة لانتقاد بريطانيا، والآن يميلون للتركيز على ألمانيا.

المشكلات المشتركة
بالنسبة إلى مناقضي البودسنابية، فجيريمي كوربين هو بمثابة السيد جونسون بالنسبة إلى البودسنابيين. على الرغم من تربيته في قصر مالك العزبة في شروبشاير، فقد قضى زعيم حزب العمال حياته في ثورة ضد "الانكليزوية". عند تركه المدرسة رحل إلى جامايكا (حيث كان يعرف باسم "الملتحي") وأميركا اللاتينية. 

وعندما كان عضوًا شابًا في البرلمان، كان يرغب في الاسترخاء في البارات الإيرلندية التي تغني أغاني الحرية الايرلندية. كما إنه يدعم حساء الأبجديّة لحركات التحرّر الوطني. وأحضر إلى فنزويلا نفس السذاجة البريئة التي أحضرتها سيدني وبياتريس ويب إلى الاتحاد السوفياتي.

البودسنابيون ومناقضو البودسنابية يرتكبون نفس الخطأ. فهم يرفضون الاعتراف بأن جميع الدول المتقدمة تصارع المشكلات المشتركة، مثل إنخفاض النمو والضغط من اللاجئين وتزايد عدم المساواة. فهم يفشلون في رؤية أن القرارات الاقتصادية تدورحول المقايضات، وليس اكتشاف الحلول الأبدية.إن التركيز الألماني على التدريب، والتفضيل البريطاني للمرونة، لهما مساوئ وفوائد في الوقت نفسه. لكن، بدلًا من مواجهة هذاالخطأ، فإنهم يسعدون بتحريض وتأجيج بعضهما.

خطورة الوضع
يبلغ الوضع أقصى خطورته في مفاوضات البركسيت. في الواقع، يرى البودسنابيون الاتحاد الأوروبي كمؤامرة لتدمير "الدستور البريطاني". ويصف جاكوب ريس موغ "البركسيت الناعم" بأنه مرادف لـ "غزو نورمندي"، من شأنه أن يقلّص بريطانيا إلى مستوى "دولة تابعة". 

يعتبر مناقضو البودسنابية أن "المفوضية الأوروبية" تجسيد للحكمة العالمية، وأنّ مفاوضي الاتحاد الأوروبي أشخاص عقلانيون يتفاوضون مع الحمقى المتعصبين.إن اجتذاب البلاد من خلال تعقيدات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون حل وسط سيكون صعبًا حتى بالنسبة إلى الأشخاص العقلانيين. وسيكون مستحيلًا إذا رفض البريطانيون رمي التعصّب المزدوج لبودسناب وشخصيته البديلة في مزبلة التاريخ.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إيكونومست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/britain/2018/06/23/podsnappery-and-its-reverse