عبدالله عبدالرحمن يتيم

بي: بقي التحليل الإثنوغرافي منفصلًا عن الأنثروبولوجي، وبقي الانشغال بتحليل المادة الإثنوغرافية في معزل عن أي منهج مقارن، وأي جهد على مستوى التأويل الأنثروبولوجي النظري، فاتصفت الإثنوغرافيا الفرنسية بالطبيعة الإمبيريقية الصارمة، من دون استنتاجات نظرية.

نشرت دار نشر نينوى مؤلفًا جديدًا للأنثروبولوجي والأكاديمي البحريني عبدالله عبدالرحمن يتيم، بعنوان "الأنثروبولوجيا الفرنسية: تاريخ المدرسة وآفاقها"، فلقي أهتمام النقاد والصحافة البحرينية. في كتابه هذا، يثير يتيم أسئلة عدة تتناول الأنثروبولجيا الفرنسية، التي بحسبه ما زالت تستوقف دارسي تاريخ الفكر الأنثروبولوجي، "خاصة لجهة تميُّز نظريات ومناهج هذه المدرسة العريقة، بل حتى شخصيتها الفكرية العامة عن بقية المدارس الأنثروبولوجية. ولعل من العلامات البارزة لتميُّز هذه المدرسة هو الدور الذي لعبه عدد من الأنثروبولوجيين الفرنسيين منذ النصف الثاني من القرن العشرين، مثل: كلود ليفي ستروس، بيير بورديو، لويس دومون، موريس غوديليه، وميشيل ليريس، في الفكر والنظرية الأنثروبولوجية؛ خاصة إذا ما تمت مقارنة هذا الدور بالدور الذي لعبه السوسيولوجيون والمؤرخون الفرنسيون، مثل: إميل دوركايم، مارسيل موس، فرناند بروديل، ومارك بلوخ، عبر تجاربهم في مدرسة الحوليات عامة، والحوليات الاجتماعية والحوليات التاريخية خاصة، في تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم الأنكلوساكسوني".

فلسفة فإثنوغرافيا

يقول يتيم في كتابه أن الأنثروبولوجيا الفرنسية المعاصرة تنتمي إلى بدايات القرن العشرين، وتبلورت شخصيتها ما جعل منها مدرسة في الأنثروبولوجيا تختلف عن نظيرتيها البريطانية والأميركية، "تستمد هذه الشخصية تجربتها وتميزها من تقليدين أساسيين: من الناحية الأولى، امتازت هذه المدرسة باستمرار استنادها على تقاليد النظريات الكبرى، ومن الناحية الثانية على الدراسة التفصيلية والصارمة للحقائق والمعلومات. وقد شهد تاريخ المدرسة الفرنسية استقطابات حادة بين كلا الاتجاهين في مراحل معينة من تطورها، وفي مراحل أخرى ساد التكامل والتعاون بين الاتجاهين. وتعكس التجارب والأعمال الأنثروبولوجية الفرنسية خلال ما يزيد عن القرن مسار كلا الاتجاهين وتأثيراتهما في الخلاصات النظرية التي نتجت عنها والتي أخذت تترك تأثيراتها على الأكاديميات والمعاهد الفرنسية وغيرها في القارتين الأوروبية والأميركية".

يضيف يتيم أنه كان للشخصية الثقافية الفرنسية أثرٌ في تشكُّل معالم الأنثروبولوجيا الفرنسية، ففرنسا تمتلك ثقافة فكرية عامة وفرت هامشًا كبيرًا للمتعلمين من العامة للانشغال بالقضايا الفكرية والفلسفية، وهي من المميزات التي جعلت التجربة الفرنسية تختلف عن مثيلاتها في بريطانيا وأميركا الشمالية، "لذا فليس بمستغربٍ أن تحتل شخصية مثل ليفي ستروس تلك المكانة الهامة في الحياة الفكرية العامة، وذلك ليس بصفته أنثروبولوجيًا أو أكاديميًا مرموقًا، بل بصفته كاتبًا يمتلك نصوصًا نثرية تمتاز بالجمال والرقة الأدبية والعمق الفلسفي. وهكذا أصبحت الأنثروبولوجيا الفرنسية، من خلال انشغالها بالحياة الثقافية والفكرية العامة، أكثر ارتباطًا بالعلوم الإنسانية الأخرى وبالفلسفة والأدب، إلى درجة أنه كان لكل التطورات الكبرى في المجالات الأنثروبولوجية الفرنسية انعكاساتها وتفاعلاتها خارج النطاق الضيق للعلم ذاته. ولعل قراءة سريعة للسِّيرَ الذاتية لأبرز الأنثروبولوجيين الفرنسيين تكشف لنا مدى انشغالهم بالقضايا الفكرية والاجتماعية التي كانت محل شد وجذب في الحياة الثقافية والسياسية العامة في فرنسا، فهكذا كان شأن دوركايم وليفي ستروس وبورديو وغوديليه مثلًا.

&تصنيف إثنوغرافي

يعلق يتيم أهمية على توقف الدَّارس لتاريخ الأنثروبولوجيا الفرنسية أمام سمة عامة ميَّزتها على الصعيد المنهجي عن مثيلاتها في العالم الأنكلو ساكسوني، فبعض الدارسين لتاريخ الأنثروبولوجيا، مثل روبرت باركن، يرون أن الأخيرة امتازت بتكامل واندماج حقيقي بين الانشغال النظري والعملي على المستوى الأنثروبولوجي، فالإسهامات النظرية هناك كان مصدرها شخصيات أنثروبولوجية عُرِف عنها قيامها بأعمال حقلية إثنوغرافية في مجتمعات وثقافات معينة نتجت عنها نظرياتهم وإسهاماتهم الفكرية التي أصبحت معروفة بعد ذلك. ولعل المثال الأبرز على الصعيد العام وليس الحصري مالينوفسكي في بريطانيا وبواز في أميركا. وعليه، أصبح ما يميز كلًا من الأنثروبولوجيا البريطانية والأميركية هو تكامل واندماج الجانب النظري الأنثروبولوجي بالشق العملي الإثنوغرافي، أما الأنثروبولوجيا الفرنسية فامتازت بانفصال الشق النظري عن العملي، فالأنثروبولوجيون أصبحوا موزعين بين صنفين: الصنف الأول نظري يتسم بضعف تجاربه الحقلية الإثنوغرافية ومحدودية تجاربه الحقلية.

أما الصنف الثاني، فقد حاول أن يمتاز بتمكنه من تجارب العمل الحقلي الإثنوغرافي، ولكن بمحدودية توظيف تلك التجارب في الأطر النظرية العامة، لذا لم تأت تجارب هؤلاء وأعمالهم الحقلية بالثمار المتوقعة، فتجارب مارسيل غرويل والفريق المصاحب له في بعثة دكار-جيبوتي في مجال الإسهام النظري الأنثروبولوجي ظلت محدودة قياسًا بتجربة كل من أرنولد فان جنب وروبرت هيرتز، على الرغم من أن هذين الأخيرين أنجزا أعمالًا إثنوغرافية في مجتمعات وثقافات أوروبية.

عوامل أخرى

من العوامل التي عززت ضعف تجربة العمل الحقلي تأثير تجارب الهيمنة الكولونيالية الفرنسية التي أتاحت الفرصة أمام تلك الأدارة الكولونيالية لقيام مجموعة من الإثنوغرافيين بإنجاز أعمال حقلية اتسمت بالهزالة مقارنة بأقرانهم آنذاك في بريطانيا وأميركا وألمانيا وهولندا.

برزت عوامل أخرى في مسيرة الأنثروبولوجيا الفرنسية كان لها الدور بالبارز في مضاعفة إشكالية الانفصال بين الجانب النظري والعملي وتأثيراتهما على إنتاج المعرفة النظرية الأنثروبولوجية، "فقد كان لغياب التخوم والاحتراف الأكاديمي في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية الأثر السلبي في عدم وجود الحدود الفاصلة والواضحة المعالم بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، ما تسبب في عدم معرفة من هم أولئك الأنثروبولوجيون بين كبار شخصيات تلك العلوم، فكان أحد الدارسين لتاريخ الأنثروبولوجيا الفرنسية يتساءل: هل يمكن اعتبار دوركايم فيلسوفًا أم عالم اجتماع؟ وهل موس وبورديو عالما اجتماع أم أنثروبولوجيان؟ وماذا عن ميشيل فوكو: هل هو مؤرخ أم عالم اجتماع؟"

يرى يتيم أن الأنثروبولوجيا الفرنسية، وإنْ أبدت خلال تلك العقود اهتمامًا عميقًا بالإثنوغرافيا، "فإن هذا الاهتمام ظل معزولًا عن الانشغالات النظرية التي كانت هي الأخرى عميقة الطابع، فالتحليل الإثنوغرافي ظل منفصلًا عن مثيله الأنثروبولوجي، فقد ظل الانشغال بتحليل المادة الإثنوغرافية في معزل عن أي جهد أو منهج مقارن، بل عن أي جهد على مستوى التأويل الأنثروبولوجي النظري، الأمر الذي جعل الإثنوغرافيا الفرنسية تتصف بالطبيعة الإمبيريقية الصارمة، لكنها في الوقت نفسه بعيدة كل البعد عن أي استنتاجات أو آفاق نظرية".