بقلم كرم خليل


صدر حديثًا عن دار أوراق للنشر والتوزيع في القاهرة، رواية قيامة الروح للكاتب السوري ثائر الناشف.
يرصد النص اللحظات الأولى لتصاعد الحراكالمدني في سوريا من خلال المظاهرات، والاحتجاجات، والاعتصامات الحاشدة، كما أنه يعكس من خلال حوار الشخصيات تنامي الصراع أثناء عمليات الاعتقال، والخطف، والتعذيب التي تطورت لاحقًا إلى العنف المسلح الذي عمّ أرجاء سوريا كلها في مطلع عام ألفين وثلاثة عشر للميلاد.&
للنص امتدادين هما الامتداد الزماني، ويبدأ من شهر فبراير وحتى نهاية شهر سبتمبر عام ألفين وأحد عشر للميلاد، أي قرابة ستة أشهر قبيل انزلاق سوريا في أتون الحرب الطاحنة، والامتداد المكاني الذي يشمل عرض جميع الأحداث التي وقعت في كافة أرجاء سوريا. &
لا يتمحور النص حول شخصية بعينها، نظراً لكثافة الأحداث التي شهدتها سوريا في تلك الحقبة، بل يعرض لأكثر من شخصية حيث تقف جميعها فيمتن النص وتلتقي على أرضيته، راسمة بحوارها وحراكها وصراعها مضمون الرواية.&
غير أن النص بدا أكثر جرأةً في تناول الحالة السورية من خلال إبراز العقد الجنسية المستحكمة عند ضباط الجيش والأمن، وتحليل الانفعالات النفسية الخاصة بالناشطين السوريين؛ والتي كانت سببًا في اندفاعهم إلى التظاهر ضد النظام.&
أمّا القضايا المثيرة للجدل التي عرضت لها الرواية، فيمكن الوقوف عندها ومراجعتها في سياق الأحداث الساخنة التي مرت بها سوريا قبل أن تنزلق في أتون الحرب، وكأن الرواية من خلال عرضها للعنف الأسري والمجتمعي والمدرسي المصحوب بنماذج شتى من القهر النفسي، تقدم السبب الرئيسي الذي أدى إلى اندلاع موجة الاحتجاجات العارمة؛ التي كانت قد شهدتها سوريا كجزء متمم للمظاهرات التي شهدتها مصر وتونس وليبيا. &
كما أن أسلوب النسج الدرامي الذي اتبعه الكاتب في بناء روايته يكاد أن يكون متأثرًا تأثرًا كاملًا بطريقة السرد الأوروبي الشرقي لمعمار الرواية السياسية، وبوجه خاص مع طريقة الكاتب الصربي إيفو أندرتش في روايته الجسر على نهر الدرينا،والذي جعل من الجسر الحجري القديم القائم بين البوسنة وصربيا موضوع الرواية، وشخصيتها الرئيسة، فيما جاءت الشخصيات الأخرى التي توالى حضورها ومرورها التاريخي على الجسر، كأجيال متعاقبة، بحيث كان لكل جيل أقاصيصه وحكاياته الخاصة به التي دارت تفاصليها وجرت وقائعها على الجسر، وعلى نفس المنوال تقريبًا جاءت رواية قيامة الروح التي كانت الثورة فكرتها الرئيسة وشخصيتها المركزية، أمّا الشخصيات الأخرى فقد تفاوت أدوارها في النص كمؤيدة للسلطة وكارهة للثورة أو متعاطفة معها وحالمة بهاومضحية لأجلها. &
كما أن الرواية تناقش قضايا معقدة لازالت حتى اليوم محور جدال حاد بين السوريين، والتي كان على رأسها قضية أسلمة الاحتجاجات أو ما يعرف في أوساط المثقفين "أسلمة الثورة" حيث أن النص أظهر الصراع المحتدم في تقرير هوية الاحتجاجات،منذ أن التجأ المحتجون إلى المساجد، واتخذوا منها معقلًا لهم ومقرًا لانطلاق مظاهراتهم اليومية، وبشكل خاص من باحة المسجد العمري الكائن في منطقة درعا البلد.&
لكن الكاتب يعود في الفصول الأخيرة من روايته ليظهر لنا أن الخطاب الديني الذي لعب رجال الدين دورًا كبيرًا في تصديره إلى المتظاهرين، وفرضه كأحد الخيارات المُرة على الثورة التي تسببت في ابتعاد الكثير من المكونات العرقية والمذهبية عنها، ما كان له أن يسود لولا طغيان رأس المال الأجنبي، وسطوة الأجندة الإقليمية دون أن يخوض في التسميات، وهو شكل من أشكال النقد والمراجعة لكل الأخطاء الفادحة التي أصابت الاحتجاجات، وتسببت لاحقًا في الانجراف وراء العنف المسلح من كلا الطرفين المتصارعين، وعلى وجه أخص في سياق مَنْ قَتَلَ في معركة الوجود والبقاء من جهة، أو مَنْقُتِل في سياق معركة الحرية والكرامة.
ورغم أن فكرة الرواية القائمة حول المظاهرات والاحتجاجات والقمع والصراع بين الاستبداد والحرية كانت معروفة بالنسبة للعديد من السوريين من حيث البدايات والنهايات، إلا أن روعة السرد في عرض بواطن الأحداث، وقدرة الكاتب على الخوض في ماضي الشخصيات، والارتحال في زوايا المكان جعل النص ينتمي انتماءًا أكاديميًا لمدراس العلوم الاجتماعية في التأصيل الأدبي، وخاصة في ظل رغبة الكاتب على عرض الأغاني الشعبية المناهضة للسلطة كسلاح فني بسيط تجسّد في مراحله الأولى من خلال النزوع الشعبي المرح في تحدي العنف المفرط. &
رغم أن الكاتب وبحسب تفاصيل السرد الذاتي الخاص به في سياق الجزء الأول من الرواية، لم يتسن له زيارة المدن السورية كلها، بل أمضى جلَّحياته في المنفى، إلا أن الكاتب استطاع من خلال أسلوب الكشف والتحليل أن يحقق الطوفان الروحي الذي من شأنه أن يجعل القارئ يعتقد وبقناعة راسخة، أن الكاتب قد كان بصحبة جميع الشخصيات سواء كانت مدنية أو عسكرية، وعاش معها جميع التفاصيل، وتلمّس أوجاعها، وأصغى لأحاديثها وحواراتها المسجلة تسجيلًا واقعيًا. &&
أمَّا الشيء الأهم الذي ظهر خلال الرواية، فهو براعة الوصف الدقيق للإيماءات والإيحاءات الجسدية، كما أن الكشف الشيّق عن خبايا الأحداث التي لم يعرضها الإعلام، ومهارة الغوص المتأني في أعماق النفس البشرية، جعل الشخصيات تخلد في الذاكرة، فبدت وكأنها تعيش إلى جوارك في كل لحظة من لحظات التأمل والقراءة.&
يستطيع المرء أن يخرج بانطباع حاسم بعد تقليب النص، أن هذه الرواية يمكن أن تندرج في سياق مرحلتين حاسمتين من التاريخ السوري المعاصر، الأولى وهو أن هذه الرواية الوليدة، وبموجب التجربة الشخصية لكاتبها، تمزج بين مسألتين مهمتين، وهما أدب المنفى وأدب الثورة، ولذا فهي تمثل باكورة الأدب السوري المعاصر في مرحلة ما بعد الثورة.
أمَّا المرحلة الثانية فهي تمثل تمردًا صارخًا على كل القيود والقوالب الاجتماعية الجامدة والمحافظة التي كرسها السوريون في حياتهم، ولاسيما عندما كشفالكاتب النقاب عن العلاقات الجنسية الساخنة بين ضباط الأمن وشبكات المجندين، فضلا عن عرض الألفاظ النابية، والكلمات المقذعة التي راح يكيلها ضباط الأمن للمعتقلين أو المحتجين في الساحات العامة، خاصة وأن الكاتب هو من أبناء هذه المرحلة، ولذا فإن الرواية تكاد تختلف اختلافًا جذريًا مع ما سبقها من روايات عربية مقيدة بحدود السلطة.&
ويمكن القول أيضًا، إن هذه الرواية تمثل باكورة التحرر الوليد ضمن سياق الواقعيتين الثورية والنفسية في جوهر الأدب العربي، بعيدًا كل البعد عن قيود الرقابة الثقافية التي ظلت تنتج لنا ومن خلال الكثير من الكتّاب العرب روايات نمطية لا تحاكي الواقع إلا بقدر حرصها على عدم المساس بخطوط السلطة.&
أخيرًا ووقوفًا عند عنوان هذه الرواية، يمكننا الاستنتاج كذلك أنه طالما كانت الروح الإنسانيةمرآة الجسد، فهي تبدو من خلال هذا النص مرآة النفس البشرية في صراعاتها مع الخير والشر، وكوابيسها المطلقة، وأحلامها الوردية، وطموحاتها في الحب، وهوسها في الكره.&
كاتب سوري
&