&

رسمة "عمّال الطابوق" (1949)

ينتابني فرح عميق، لا استطيع اخفائه، كلما اشاهد هذه الرسمة الكرافيكية ذات الابعاد المتواضعة التى لا تزيد مقاساتها عن 35× 35 سم. وهي بثيمتها واسلوب تنفيذها، ما فتئت تظل، بالنسبة اليّ شخصياً، من الامور القريبة الى قلبي واهتماماتي المهنية. فموضوع الرسمة الكرافيكية "يمجد" مهنة ، منحتها كل سنين عمري، وبت اعرف بها، واصبحت لاحقاً اساس انشغالاتي المهنية والثقافية والحياتية، واعني بها :"العمارة" وكل ما يتعلق بها. واللوحة الكرافيكية المرسومة تجسد ، بامانة، تمثلات تلك المهنة وتبين اساليب تنفيذها.

تعتمد الرسمة، (وكما هو الحال عند نماذج "جنسها" الكرافيكي الابداعي)، اعتمادا كاملا على اتقان "الرسم" Drawing ، والمقدرة العالية في التخطيط، بالاضافة الى الاهلية في اختيار تكوين معبر، تدار فيه "لعبة" الاسود والابيض على مستوى رفيع! بدرك الفنان جيدا، استحالة الركون، هنا، على مفهوم "التدرج اللوني"، مستعيضا عنه بتلك الخطوط الانيقة الانسيابية، المعبّرة عن "سردية" يكاد كل منا يفهم حوارها وايماءاتها، لفرط رهافة خطوطها الناطقة، المجسدة لوضعية شخوص اللوحة الثلاث وإظهار حركاتهم، هم الذين، ما برحوا، منخرطين في اداء اعمالهم البنائية! قليلة في ذلك الزمن، كانت تنجز اعمال كرافيكية مماثلة في مسار الفن العراقي. وبهذه الرسمة فقد زاد الفنان محمود صبري على ذخيرة الفن العراقي إضافة مميزة، مثرياً، في الوقت ذاته، منتجه الابداعي!

لم يكن محمود صبري، اول من اهتم في هذة الثيمة فنياً. فقد سبقه في ذلك، جواد سليم، عندما "زيّن" واجهة مبنى "أمانة (مصلحة) نقل الركاب"، بافريز نحتي عبر به عن موضوعة "العامل". (كما اخبرني بذلك صديقي و"استاذي" المرحوم جعفر علاوي)، الذي دعا النحات جواد سليم لانجاز ذلك العمل النحتي، بصفته معمار المبنى، وكان ذلك في 1944، كان المبنى (الذي ازيل لاحقا، وليس لدي صورة له مع الاسف الشديد! كما ليس لدي علم ، فيما اذا كان احد من الفنانين وثق عمل جواد هذا). كان ذلك المبنى يقع عند مدخل شارع الرشيد من جهة باب المعظم. واخال، ان محمود صبري، بعمله المبكر هذا، تاق ان تكون الرسمة

الكرافيكية ، تعبيراً عن "حالة" سياسية، وتجسيداً لموقف سياسي، يجعل من العمال (... والفلاحين أيضاً)، اداة لإجراء تغيير يفضي، كما هو مأمول منه، الى تقدم وحرية ورفاه المجتمع. واذ اعي تماما ما كان يرمي اليه الفنان، فان اعجابي باللوحة ومقاربة ادراكها وفهم مغازيها، يبقى على حاله، مضافاً اليه طيب تمنيات الفنان الرائد، المترع باحاسيس توقه النبيل!

لوحة الوطن (وطني) (1963)

يستدعي محمود صبري صور نضالات شعبه، التى قام بها على مدى عقود طويلة من تاريخه العريق لتكون موضوعاً مركزياً الى لوحته ذات الاهمية الفائقة فنيا ووطنياً، المسماة "الوطن" (احيانا تدعى <وطني>). نحن ازاء عمل تشكيلي بارز، يحرص الرسام ان يكون فنه متماهيا مع تلك الاهداف النبيلة التى سعى وراءها ناس كثر، مجسداً فيها تمثلات الصراع المرير الذي خاضه الشعب في سبيل استرداد حقوقه المسلوبة، والتعبير عن توقه لحياة افضل. لا ينشد محمود صبري في عمله هذا، التذكير بالمراحل التاريخية للنضال. انه، هنا، ومن خلال وجوه شخوصه المرسومة التى تبدو معاصرة، وعبر نوعية لباس ثيابهم العادية. ينزع الى اجتراح "مشهد" لزمن رمزي، يجعل منه "نموذجاً" بصرياً: اصيلا وصادقاً لصفحات ذلك النضال القاسي والمستمر.

ينبني تكوين اللوحة المنفذة بتقنيات الرسم الكرافيكي، على اظهار "حالات" نضال شخوص اللوحة و"ابطالها"، في حركاتهم وإيماءاتهم المعبرة، وهم يكابدون الامريّن من وضعهم المعيشي المزري، دافعين ثمناً باهضاً جراء ذلك النضال. ثمة وجوه لرجال ونساء وحتى..اطفال، تنظر، تارةً، ؛ في اتجاه "رائي" اللوحة ومشاهدها، تستعلم منه، وتتساءل، عن اسباب معاناتهم تلك، وتارة آخرى، تبين تلك الوجوه المنهكة، المنشغلة بآلامها، اوضاع مُداراة احزان بعضها للبعض الآخر. كما لو ان الفنان يطمح ان يكون حضور تلك الاوجه المتعبة وايماءات حركة اجسادهم البليغة واياديهم المعبرة، تمثيلاً معبراً لرمزية تدلل عن ما يرغب ايصاله! ليس من ثمة "اكسسوارات" كمالية كثيرة او مبالغ بها في تفاصيل اللوحة المرسومة، وانما هناك قرار لتواجد اشخاص Figures كثيرين، تشي اشكال رسومهم، الشاغلة لطول اللوحة وعرضها، بالاهمية القصوى التى يوليها الرسام لهم ولحضورهم المتنوع واللافت. وقد ترتب عن هذا القرار، وكذلك عن التقنين المختزل في تنويع مفردات اللوحة وعناصرها، الى ايلاء اكتراث كبير لناحية "التخطيط"، والارتقاء به ليؤدي دورا مؤثراً واساسيا في إختيارات تقنية تنفيذ اللوحة، وخيارات نوعية "جنسها" الفني، وبالتالي الوصول باللوحة الى ذلك المستوى الابداعي الحاذق. معلوم، ان بلوغ مثل تلك النتائج، لم يكن امراً متاحاُ، لولا القدرة الكبيرة والبراعة في ملكة "الرسم". ومحمود صبري يمتلك، من دون ادنى شك، مثل تلك الموهبة التخطيطية، التى رأينا تمثلاتها في

العديد من اللوحات التى انجزها سابقا. بيد ان امراً جديدا ولافتا اضاف الى تلك "المهارة" الفنية للرسم، بعدا ابداعيا آخرا، مكن الفنان وقتها، إكمال مهمته ويسّرها على قدر كبير من الاتقان.

يذكر "عبد الله حبه" في مقال نشره في موقع "روسيا اليوم"، من ان الفنان محمود صبري، اثناء وجوده في موسكو في بدء الستينات (بعد ان استقال من وظيفته ببغداد كمدير عام مؤسسة المعارض، متفرغاً لفنه)، درس الفن التشكيلي في "معهد سوريكوف الفني" الشهير. كما يذكر بانه طوّر مهاراته التخطيطية، في ذلك المعهد بفترة قصيرة،تحت اشراف اساتذة كبار، يُسمي "حبه" بعضهم مثل الرسام الكرافيكي "بافل فوفورسكي"، وكذلك الفنان "الكسندر دينيكا" احد اهم الفنانين "السوفيت" وقتذاك. والرسام "دينيكا"، قريب الي مسامعي والى اهتماماتي الفنية، اذ كان احد اساتذة الرسم في "معهدي": معهد موسكو المعماري، لسنين عديدة قبل ان ينتقل في سنة 1959 الى "معهد سوريكوف"، اي قبل سنة تماما من عام التحاقي بالمعهد المعماري، الذي انهيت فيه دراستي المعمارية الاولية والعليا. كان اسم "دينيكا" وفنه، وقتذاك، يحظيان بشهرة واسعة من قبل كثر من متابعي الفن السوفيتي. وقد تعززت تلك الشهرة رسوخا في المشهد الفني منذ ان اكمل الفنان لوحته المعروفة "دفاعاً عن بتروغراد" سنة 1956 «радаОборона Петрог»، وهي اللوحة التى نالت اعجاب كثر من المتابعين والنقاد سواء في الاتحاد السوفيتي ام في خارجه. اصبحت تلك اللوحة، باسلوب رسمها وبتكوينها المدهش واختيار الوانها وفي توزيع شخوصها، بمثابة عنوان جديد للفن السوفيتي مثلما استطاعت ان تعكس بوضوح معاني التغييرات الكبرى التى حدثت، يومذاك، في المجتمع. اعتمدت اللوحة في مقاربتها الفنية، على اقتصاد واضح، في طريقة استخدام اللون ودرجاته، كما لجأ الفنان الى تقشف شديد لناحية تحديد عناصر اللوحة، محرزا بتلك المداخلات الزاهدة مستويات عالية من التعبير بوسائل جد قليلة. وبدت "شخوص" Figures اللوحة (المبنية تكوينها، على حضور الاشخاص بصورة اساسية)، وكأنها مرسومة كرافيكيا اكثر بكثير من انها مشغولة بالزيت. واذ احرص على ذكر لوحة "دينيكا" هنا، فاني افترض من ان محمود صبري، كان هو الآخر معجب بها، ومقدراً عاليا قيمتها التشكيلية ومشيدا بتقصيات استاذه المبدع في المعهد. ومما يعزز هذا الافتراض، قول "عبد الله حبه" من انه شاهد نسخ من تلك اللوحة بشقة محمود صبري في موسكو اثناء زياراته العديدة له، ولاحظ الاهتمام الكبير الذي كان يوليه الفنان العراقي لها. بل ويذهب بعيدا عبد الله عندما يروي بانه وجد تلك اللوحة حاضرة، مع نماذج للوحات اخرى، اثناء <التحضير لجداريته وطني>، كما يذكر في مقاله المنشور. ويمكننا ان نستنتج من كل هذا، بان محمود صبري، تعاطى مع لوحة دينيكا، ومع لوحات آخرى "كمراجع" تشكيلية مؤثرة لانجاز لوحته المستقبلية "الوطن". بمعنى آخر، ثمة فعالية "تناصية" جرت هنا، بنجاح لجهة بلوغ مستويات فنية جد متقدمة. ولئن اشرنا الى مفهوم "التناص" الذي وظفه محمود صبري باقتدار، فما هذا سوى استحضار لفكرة، نزعم ان الفنان

الحداثي اولاها اهتماما مضافا، فحواها ان العمل الفني الجيد (والاحترافي.. ايضاً)، يتعين ان يكون منفتحاً على أفاق معرفية واسعة، مستفيدا، في الوقت ذاته، من قراءته الشخصية لتقصيات إسلوبية ترجع الى فنانين مختلفين.

تبقى لوحة "الوطن" بتكوينها المتقن، واسلوب رسم شخوصها، وما ترمز حركات اولئك الاشخاص وما توحي به ايماءاتهم من دلالات معبرة، فضلا على ابعادها الضخمة، تبقى تعتبر احدى انجازات الفن العراقي الحداثي المرموقة، انها تمثيل بارع لذلك الشعور الوطني العالي، الذي يسم شخصية محمود صبري، والذي ظل ملازما له، منذ ان عير عن ذلك الشعور من خلال لوحته المبكرة "الجزائر" وفي غيرها من الاعمال. وسيكون امرا جيدا مثلما هو مفرحا للكثيرين من محبي العاصمة العراقية، لو ان "القيمييّن"، على تخطيط بغداد وجدوا الموقع الملائم لعمل "جدارية" تتضمن لوحة "الوطن" اياها في احدى ساحات المدينة، وبتصميم مميز، يتساوق مع اهمية مضمون اللوحة، و مع قيمتها الفنية العالية ودلالاتها الوطنية.

وكلمة اخيرة عن محمود صبري (التى لا يمكن ان توفيها، بالطبع، نصوص هذه القراءة المختصرة)، من ان هذا الفنان القدير، رغم التغييب والتهميش، اللذين صادفهما في حياته وحتى في ..مماته، من قبل السلطات الرسمية في بلده، ما انفك يعتبر واحدا من اهم الفنانيين العراقيين، الذي اضاف الكثير الى تنويعات ذخيرة الفن العراقي الحداثي. فضلا عن ان ما يسم هذا الفنان ويجعله "حالة" متميزة، هو اجتهاده الدائم وصدقه وتماهيه مع فنه وإخلاصه مع تقصياته الاسلوبية والانتماء اليها بصورة واضحة وصريحة، كما كانت انتماءاته الوطنية تجاه شعبه وطبقاته المحرومة واضحة وصريحة ايضاً. ومع كل اشكال التجاهل وانواع الاقصاءات والاهمال (ولا بأس من التذكير بهذا، مرة آخرى!) التى مورست ضد محمود صبري ومحاولات تغييب دوره الهام في إثراء الخطاب الفني المحلي، فان اسمه وفنه باقيان وحاضران في ذاكرة محبيه واصدقائه المخلصين. وسيأتي يوم، يقرّ به العراقيون، ولاسيما الفنانين منهم، بالدينّ الذي "لمحمود صبري" عليهم! □□

&

الصور:

1- رسمة "عمال الطابوق" (1949)، الفنان محمود صبري. (1927 -2012)، <تخطيط على ورق>

3- لوحة "الوطن" (1963)، الفنان محمود صبري (1927 – 2012)، <تخطيط على كارتون>، تفصيل.

4- لوحة "الوطن" (1963)، الفنان محمود صبري (1927 – 2012)، <تخطيط على كارتون>، تفصيل.

5- لوحة "الوطن" (1963)، الفنان محمود صبري (1927 – 2012)، <تخطيط على كارتون>، تفصيل.