القوة المدنية الأوروبية غير قادرة على الدفاع عن نفسها، والمزيد من الوحدة الأوروبية هو الرد، لكن الدلائل كلها تشير إلى مزيد من التفكك الأوروبي. فما العمل؟

لندن: هناك كتب يجب أن تُقرأ وأخرى يجب أن تُقتنى. ينتمي تاريخ أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي كتبه إيان كيرشو إلى الفئة الثانية، بحسب صحيفة فاينانشال تايمز، مشيرة إلى أن "رولر كوستر: اوروبا، 1950 - 2017" Roller Coaster: Europe, 1950-2017 هو سيرة حياة قارة مر وقت كانت فيه سيدة العالم وكادت تنتحر في حربين عالميتين.

الكتاب الترياق

كتاب كيرشو الذي يروي قصصًا مدروسة يمكن العودة اليها من تاريخ أوروبا بعد الحرب يشكل ترياقًا هناك حاجة ماسة إليه ضد مانشيتات اليوم التي تخطف الأنفاس، ناهيكم عن هجوم الإعلام بأخباره على مدار الساعة، سواء أكانت حقيقية أم كاذبة. &

من الأمثلة على ذلك معركة بركسيت وما يقوله الكتاب من طريق بريطانيا الملتوي، حين فقدت امبراطوريتها بعد عام 1945. فهي في البداية رفضت الانضمام إلى ما أصبح الاتحاد الأوروبي كما نعرفه اليوم. ثم عادت تطرق باب أوروبا لتُقابَل بالرفض من غريمتها التاريخية فرنسا في عام 1963. وبعد أن قُبلت بريطانيا عضوًا في عام 1973 تريد الآن الخروج. وتشبِّه صحيفة فاينانشال تايمز في مراجعتها كتاب كيرشو مغامرة بريطانيا في أوروبا بلعبة "رولر كوستر" في مدن الملاهي.

من المحطات المهمة الأخرى في كتاب كيرشو الضخم انتقال دكتاتورية فرانكو في اسبانيا ودكاتورية سالازار في البرتغال إلى الديمقراطية بعد 30 عامًا على هزيمة الفاشية، وانهيار الامبراطورية السوفياتية في أوروبا الشرقية مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين الذي تابعه الاوروبيون في عام 1989 غير مصدقين أن انقسام قارتهم اقترب من نهايته.

بين الانتفاضات

يأخذ المؤلف القارئ في رحلة من انتفاضات الألمان الشرقيين والمجريين والبولنديين والتشيك التي سُحقت في الخمسينيات والستينيات إلى فوزهم بالديمقراطية في التسعينيات. فتاريخ أوروبا ما بعد الحرب تاريخ أزمات يشرِّحها الكاتب أزمة تلو أخرى، من تقسيم المانيا إلى إعادة توحيدها في عام 1990، ومن تصفية الاستعمار الأوروبي إلى العولمة، ومن ثورات الشباب في أواخر الستينيات إلى الإرهاب المستورد في الألفية الثالثة، ومن أطول فترة سلام عرفتها أوروبا إلى بوادر حرب باردة جديدة في القارة اليوم.

من الطبيعي أن يتناول الفصل الأخير في هذه الرحلة قضية الهجرة الجماعية. فهذا الغزو السلمي لأفواج اللاجئين والمهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط أسفر عن تمكين الشعبوية الانعزالية الاوروبية بما يترتب على ذلك من تداعيات يمكن أن تقرر مصير أوروبا في القرن الحالي.

هناك أيضًا موت الديمقراطية الاجتماعية التي كانت من ثوابت السياسة الاوروبية قبل صعود اليمين الشعبوي. فقبل 10 إلى 20 سنة، كانت الخريطة السياسية الأوروبية مرسومة بحبر أحمر. واليوم، لم تبق إلا بقع صغيرة بهذا اللون؛ إذ انقرض الاشتراكيون الفرنسيون والإيطاليون عمليًا، ولا يحصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني الذي حكم سنوات طويلة بقيادة المستشارين فيلي براندت وهيلموت شمدت، أكثر من 18 في المئة من الأصوات اليوم. والاستثناء هو حزب العمال البريطاني الذي من الجائز أن يهزم المحافظين بقيادة تيريزا ماي.

بين السلام والاندماج

يعتمد كتاب "رولر كوستر" منظورًا ينسج التواريخ القومية على قماشة أوروبية من البرتغال إلى بولندا، وداخل روسيا. يقدم كيرشو في سفره الأوروبي ثلاث موضوعات كبرى: أولًا، ما هي أوروبا هذه، واساسًا الاتحاد الاروروبي المؤلف من 28 دولة سينخفض عددها قريبًا إلى 27 دولة؟ ثانيًا، كيف أُقيم هذا المشروع الجديد في قارة لم يكن السلام خلال 500 سنة أخيرة من تاريخها إلا استراحة بين حربين؟ وثالثًا، كيف استمر هذا المشروع وازدهر إلى اتحاد بهذا الحجم بعدما كان يضم 10 دول في عام 1983؟

يشيد كيرشو في كتابه الضخم بالاتحاد الاوروبي لأسباب متعددة، لكنه يعترف بأن المشروع الاوروبي أخفق في إيجاد "إحساس حقيقي بهوية أوروبية واحدة"، وهو يعزو ذلك إلى بقاء "ولاء المواطنين العاطفي الرئيسي لدولتهم القومية".

لذلك، كُتب نعي الدولة القومية قبل الأوان. فالمزاج العام هذه الأيام ينحو إلى قدر أقل من الاندماج، على الرغم من أن الدول الأعضاء الجديدة من أوروبا الشرقية سعيدة بالاستمرار في تلقي معونات سخية من بروكسل. والاعتقاد السائد هو أن السلام لم يكن ثمرة الاندماج بل العكس هو الصحيح.

يلاحظ المؤلف أن المجتمعات الاوروبية أصبحت بحلول الستينيات مجتمعات بعيدة عن العسكرة، وأن الجيش فقد نفوذه كأحد مؤسسات المجتمع الرئيسية، وحلت الرعاية الاجتماعية محل الميزانيات الحربية. وفي حين أن الأيام السعيدة لحماية اوروبا بالمظلة الاستراتيجية الأميركية انتهت الآن، فإن المسؤول عن ذلك ليس الرئيس الأميركي دونالد ترمب، كما تؤكد الصحيفة، لافتة إلى أن ابتعاد اميركا عن اوروبا بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما بتقويض يقينيات عمرها عقود من الالتزام الأميركي بأمن أوروبا الغربية.&

قوة مدنية

وإذ تتباهى أوروبا اليوم بدورها "قوة مدنية"، فإن الأخطار تهدد مشروع وحدتها من كل الجهات، من روسيا ذات الطموحات الامبراطورية المتجددة، ومن إرهاب الحركات الجهادية والنزاعات المزمنة في الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، يتعرض الاتحاد الاوروبي لهجوم تشنه إدارة ترمب على جبهة التجارة مع تهديد النظام الأمني التقليدي للقارة بمطالبة الحلفاء أن يدفعوا أكثر ، وبخلافه يواجهون انسحاب أميركا من اوروبا بالكامل.

الحقيقة المرة هي أن "القوة المدنية" الأوروبية غير قادرة على الدفاع عن نفسها. ويرى المؤلف أن مزيدًا من الوحدة الأوروبية يجب أن يكون الرد، لكن الدلائل تشير إلى مزيد من التفكك الاوروبي. فأوروبا اليوم في قبضة نزعة قومية دفاعية، انكفائية وحمائية. والشعار الذي يرفعه الشعبويون اليوم هو أن يحمي الأوروبيون ما عندهم بأي ثمن، سيادتهم وهويتهم وحدودهم ودول رفاهيتهم. لكن مثل هذا التوجه لا ينسجم مع الدعوة إلى مزيد من الوحدة الاوروبية ونجمه الهادي ليس أوروبا بل الدولة القومية التقليدية القديمة. والمؤلف لا تروقه هذه الانعطافة في الطريق الأوروبي المتعرج، لكنه يعرف أن فصلًا جديدًا بدأ في تاريخ القارة.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "فاينانشال تايمز". الأصل منشور على الرابط:

& https://www.ft.com/content/e0ffea30-9be2-11e8-88de-49c908b1f264