عن دار "الرافدين"، &صدر مطلع العام الحالي مجلد ضخم يحتوي على عدد كبير من رسائل &الكاتب الفرنسي &الشهير مارسيل بروست (1871-1922) نقلها إلى العربية &ربيع صالح. &وبقطع النظر عن بعض الهنات في الترجمة، وأخطاء في كتابة أسماء الأماكن والشخصيات، فإن هذه الرسائل يمكن أن تفيد القارئ العربي للتعرف على خفايا حياة واحد من بين الذين أحدثوا "ثورة" في مجال الرواية العالمية بحيث لا يزال تأثيره على من يمارسون هذا الفن قائما إلى حد هذه الساعة. كما يمكن أن تضيء هذه الرسائل جوانب غامضة ومبهمة من " البحث الزمن المفقود"، &ذلك العمل الروائي الهائل الذي شغل صاحبه منذ سنوات شبابه، وحتى وفاته بمرض الربو عام.
وكان مارسيل بروست قد أصدر على نفقته الخاصة الجزء الأول من عمله المذكور عام 1913. وقبل ذلك كان قد أرسله إلى "المجلة الفرنسية الجديدة" التي ستصبح "غاليمار"، إلاّ أن لجنة القراءة التي كان أ ندريه جيد على رأسها رفضتها. وفي ما بعد سيقول جيد بأن ذلك الرفض كان من أفظع الأخطاء الأدبية التي ارتكبها في حياته. &وفي رسائله الى صديقاته وأصدقائه يسعى جيد إلى توضيح عمله، مؤكدا أنه لا يرغب في أن يكون شبيها لا ببالزاك، ولا بستندال، ولا بديكنز ، ولا حتى بالبريطاني جون روسكين الذي لم يكن يخفي اعجابه الكبير به، بل هو يرغب في أن يبتكر لنفسه طريقة خاصة في الكتابة قد تصدم القراء في البداية إلا أنهم لن يلبثوا أن يتعلقوا بها بعد أن تتوضح لهم خفاياها. ويضيف مارسيل بروست قائلا بإن روايته "تتحلّلُ قليلا من ضوابط الشكل الروائي". وهو يستخدم ضمير المتكلم "أنا" ،إضافة إلى عدد كبير من الشخصيات &تتلاقى وتختلف وتتصارع لتكون عاكسة للحياة في جزئياتها، وفي تفاصيلها. وفي رسالة إلى محرر مجلة "الحوليات"عام 1922 ، كتب مارسيل بروست يقول بإن عمله لا ينتمي إلى ما يسمى ب"الرواية التحليلية" لأن هذا النوع من الرواية بحسب رأيه "يوحي بأجواء دراسية في مختبر فيها تستخدم الأدوات والآلات". أما هو فيرغب في أن تكون روايته ّمحللة لذاته"، و"الحياة من خلال ذاته". لذلك يمكن أن تكون هذه الرواية "استبطانية". والمحور الأساسي فيها هي ّالذات البشرية".
وكان مارسيل بروست يرفض الانتماء إلى أي مدرسة من المدارس الرائجة في عصره، أو تلك &التي سبقته. وفي العديد من الرسائل هو يعبر عن ضيقه بمثل هذه المدارس، وبالمنتمين إليها. وفي نفس الرسالة إلى محرر مجلة "الحوليات"، كتب بروست يقول :"ما الداعي إلى تصنيف المبدعين إلى مدارس واتجاهات طالما أننا نفهم ما يكتبون أو ما يريدون إيصاله إلينا؟ إضافة إلى ذلك، ليس من المهم المدة الزمنية التي تستغرقها مدرسة ما لأن ذوق المبدع وابداعاته دائما ما يكون أكبر واوسع من أيّ إطار زمني. وهنا يستشهد مارسيل بروست بفيكتور هوغو الذي لم يكن ينكر انتسابه إلى المدرسة الرومانسية. مع ذلك كان دائم الإعجاب بكبار الكلاسيكيين &في الأدب الفرنسي، وفي الآداب الرومانية والإغريقية.
ومنذ البداية، ورغم الجفاء الذي أظهره نحوه بارونات الأدب الفرنسي، &تعكس الرسائل إصرار مارسيل بروست على التمسك بآرائه وأفكاره وطريقته في الكتابة، وباختياره للتقنيات الفنية. وكان على يقين من أن عمله "ينطوي على أهمية اجتماعية، وسوف يكون له صدى في أوساط المجتمع. وفي رسالة بعث بها إلى رنيه بلوم في نهاية عام ، &كتب يقول بشأن الجزء الأول من "البحث عن الزمن المفقود":" إن القسم الأول من الكتاب ليس إلاّ جزء من حياتي التي نسيتها ثم تذكرتها، بل اكتشفتها مرة أخرى وأنا أتناول قطعة من المادلين المغمسة في قليل من الشاي. كان طعمها ساحرا ثم تذكرته وعرفته، إذ أنه كان الطعم الذي كنت أتذوّقه كل صباح فيما مضى من حياتي. وعلى الفور انبعثت كلّ حياتي في تلك الحقبة من الزمن الماضي".
وفي سنة 1919، أحرز مارسيل بروست على جائزة غونكور المرموقة. وقد تقبل هوذلك بسعادة كبيرة لأنه مثلت بالنسبة له اعترافا به وبعمله بعد أن ظل سنوات وهو يترع مرارة الاقصاء، والإهمال. لكن سرعان ما انطلقت الألسن والأقلام في شتمه وانتقاده. فهو لا يستحق مثل هذه الجائزة لأنه "عجوز مريض وعلى وشك الموت". .آخرون أشاعوا بأنه لم ينل هذه الجائزة إلا بتدخل من البعض من أصدقائه. وقد حز ذلك في نفسه كثيرا. &وربما لهذا السبب جاءت الرسائل التي كتبها في &تلك الفترة التي سبقت موته، &مفعمة بالمرارة خصوصا وأن المرض اشتد به حتى &أنه لم يعد قادرا على الحركة . وفي أكثر من رسالة هو يشتكي من الإجهاد الذي ينال منه وهو يكتب بضع أسطر. لذلك لم يكن باستطاعته انهاء العديد من الرسائل. وفي آخر رسالة كتبها إلى هنري دوفينوا بتاريخ تشرين الثاني 1922 كتب يقول في نهايتها :" الآنـ لا بد أن تتقبل مني الصمت ولا شيء سواه. حاول أن تحذو حذوي" ...