من الطبيعي جداً أن يتعلَّق شابٌّ بفتاةٍ تبادله نفس مشاعر الحب والمودة والغرام على شكل حب متبادل من طرفين. لكن الأمر المستغرب عندما نصادف حالةً من الحب غير المتبادل، حيث يتعلق شاب بفتاة لا تبادله المشاعر ذاتها، أو على العكس حين تكابد فتاة في حب رجل صعب المنال وتعلم مسبقاً بأنها لن تصل إليه، ومع ذلك تظل هذه العاشقة متمسّكة بالأمل وتقوم بمحاولات تدرك سلفاً بأنها خائبة.
ربما تكون مسألة الصدّ الدائم هي من تولّد لدى الطرف المرفوض طاقة مضاعفة واستفزازاً للمشاعر والكبرياء. لكن وبشكل عام فإن جمهوراً عريضاً من الناس يرون بأن الذكور الجادّين في الارتباط &يهرولون خلف الفتاة التي لا تسقط بسهولة ضحيةً لرغباتها ومشاعرها! لذلك فإن الفتاة دائمة القول لكلمة "لا" مستحبَّةٌ ومرغوبةٌ.
في المقابل يقال بأن الكثير من الفتيات ينجذبن إلى الذكر (الوغد) ارضاءً لـ"التبعية" الكامنة في أعماق الكثير من الفتيات، وهذا بالتالي يقود إلى عدد أكبر من حالات الحب الأحادي الجانب والعقيم.&
وقد يلعب السببان معاً دوراً في انتشار ظاهرة الحب من طرف واحد والاستمرار في المحاولة، لكن المسألة قد تكون &أعمق بكثير مما ذكرناه آنفاً.&
لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو سبب هذه الحالة المرضية؟ وهل تحمل في أعماقها إعادة إنتاج لطقوس عبادية قديمة؟
يعود بنا موضوع الحب أحادي الجانب إلى مرحلة عبادة الإنسان القديم للأوثان. وطبعاً بغضّ النظر عن شكل هذا المجسّم المعبود، سواء أكان مرئياً أو مصنوعاً من &الوهم (متخيَّلاً) أو كان على شكل عبادة السلف (كالأم والأب)... فالأمر سواء، أضف إلى ذلك اعتمادنا لمفهوم "فروم" في العبادة الوثنية كموقف إنساني وكخبرة انفعالية. حيث يتساوى كل من المحب الأحادي الجانب والعابد في مسألة عدم الحصول على ردّ الفعل المرجو، وفي عدم توقُّع الرومانسية من الجانب المقابل.&
يشير "فروم" إلى أن ماهيَّة العبادة الوثنية هي ليست في عبادة هذا الصنم أو ذاك، بل هي على وجه الخصوص موقف إنسانيّ نحاول -نحن البشر- من خلاله تأليه الأشياء.&
فالإنسان الذي اخترع وثناً قام بإفراغ ذاته من كلّ صفاتها الإيجابية لصالح الوثن، وأسقط عليه أيضاً صفاتٍ كان يتمنى امتلاكها. &فصار الصنم بعد ذلك مطلقاً وعظيماً، وصار الإنسان فقيراً مجرداً من أية صفة جيدة يتوسَّل (ويتسوَّل) هذه الميزات من صنمه الذي اخترعه يوماً.
والحقّ أن الحبَّ من جهة واحدة (المبالغ فيه وذا الطبيعة الرضوخية) شكلٌ من أشكال تلك العبادة الوثنية. لأن له الخاصية الإسقاطية ذاتها في اختيار شخص عادي وإلقاء جميع المزايا المرغوبة عليه.&
وبكلمة أخرى، تتخلل هذا النوع من الحب آلية الإسقاط النفسية حيث تلتصق بإنسان وتعزو إليه &جميع الطموحات والأخلاق والمكارم.&
وبعد افقار الذات وجدانياً وعاطفياً يأتي الإلحاح المتزايد في طلب الحب والتواصل على شكل استرداد للمشاعر واستعادة للذات المغتربة لدى الطرف &الآخر المعشوق. والتضرُّع له لاستعادة بعض ما كان لديه بعدما تمَّ إجلاسه (من خلال عملية الإسقاط) على كرسي الإله!
وبالتالي فإن الحبّ الأحادي الجانب وطقس عبادة الوثن وجهان لعملة واحدة من حيث شكل السلوك في ممارسة هذه المشاعر، ومن حيث الأنا التي تغترب لدى الآخر المحبوب أو المعبود، لا فرق. ودليل ذلك الكثير من العبارات التي يتفوَّه بها العاشق الأحادي مثل قوله: "ابحث فيك عن ذاتي"، أو "أنت جزء مني". وهنا يصدق العاشق في قوله لأنه يخاطب جزءه القديم الذي غادره إلى المحبوب وبات اليوم غريباً عنه!

باحث سوري في علم النفس التحليلي.