منذ أزيد من ثلاثين سنة، يعيش الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي المولود عام 1962 في باريس، مخيّرا الكتابة بلغة موليير التي تعلمها في كابول قبل أن تغرق بلاده في حروب مدمرة تبدو بلا نهاية. وبهذه اللغة كتب جميع أعماله، ومنها "حجر الصبر" التي حصلت &على جائزة "غونكور" المرموقة عام.

ومؤخرا أصدر عتيق رحيمي عملا جديدا بعنوان :"حمّالة الماء"، وفيه يترصّدُ عذابات منفاه الفرنسي، وشجونه، وتأثيراته على الكتابة، وعلى حياته الشخصية. وهو يتردد في وصف عمله المذكور ب "الرواية" مثلما فعل مع &عماله السابقة قائلا :" صحيح أني كنت أرغب &دائما في كتابة رواية. وقد أشرع في الكتابة وأنا مصمّم على ذلك. لكن في النهاية أنتبه أن ما كتبته قد لا ينتمي إلى عالم الرواية بشكل دقيق وجدي". وقد يعود ذلك بحسب عتيق رحيمي إلى أنه عاش في وسط فيه يعلو الشعر على جميع فنون القول الأخرى. لذا كان الناس من حوله بمن في ذلك أفراد عائلته يميلون إلى استعمال الاستعارات والرموز &والإيحاءات للتعبير &عن هواجسهم، وأفكارهم. لذلك هو يعتقد أنه" لم يكتب رواية إلى حد هذه الساعة". وربما كان يمكن ل "حمالة الماءّ أن تكون رواية، إلاّ أنها سارت في طريق آخر شبيه بطريق الحكاية الشرقية لتكون نهايتها سوريالية. ويقول عنيق رحيمي :"الرواية مرتبطة ارتباطا وثيقا بنظرة الفرد إلى العالم. وأنا أعتقد أنني لا &املك هذه النظرة لأنني لا زلت مشدودا بقوة إلى عالم الاستعارات والرموز &الشعرية مثلما كان حالي في زمن طفولتي السعيدة في كابول". ويرى عتيق رحيمي أن الفرد لا وجود له في أفغانستان، وفي البلدان الشرقية بصفة عامة. لذلك يصعب على الانسان أن يقول "أنا" ،وأن يفرض وجهة نظره كفرد. &&

وتبدأ أحادث "حمالة الماء" في نفس اليوم الذي قام فيه متطرفو حركة "طالبان" بتدمير تماثيل بوذا في أفغانستان في بداية الألفية الجديدة، وفي نيتهم كتابة تاريخ بلادهم بحسب نزعتهم التخريبية والتعسفية. وقد روّع ذلك الحدث عتيق رحيمي مثلما روّع &الملايين في بلاده، وفي جميع أنحاء العالم. لذلك وصفه ب" الهزيمة التاريخية المرة والعميقة". لكن في "حمالة الماء"، يبدي تميم الشخصية الرئيسية، والذي اختار لنفسه اسما جديدا هو توم في منفاه الفرنسي، عدم الاهتمام بما حدث. &ويعود ذلك إلى أنه منشغلا بأمور أخرى كثيرة، منها مثلا أنه كان يعتزم الانفصال عن زوجته الأفغانية التي كانت في المنفى أيضا ليعيش قصة حب مع امرأة جديدة كان قد التقى بها في أمستردام. أما في كابول، فقد استقبل يوسف، الشخصية الأخرى في "حمالة الماء" حدث تدمير تماثيل بوذا بخوف كبير إذ أنه بدا له كمؤشر على استفحال العنف الأصولي. &إلاّ أن ذلك الحدث الجسيم لم بشغله عن الاهتمام بشرين، زوجة أخيه الغائب. &ومن خلال شخصية تميم أو توم، ويوسف، يأخذنا عتيق رحيمي إلى منفاه، وإلى بلاده أفغانستان لنعيش معه العديد من الحكايات والأحداث نتلمس من خلالها أجزاء من حياته الشخصية. فهو بدأ يكتب الشعر وهو لا يزال طفلا. وكان يلتهم كل ما يقع بين يديه من كتب. وعندما سجن والده بعد انقلاب عام &1973، عاش عتيق رحيمي مع عائلته ذلك الحدث كجرح عميق كان يعذبه يوميا. &وفي المعهد الفرنسي الذي انتسب إليه، اكتشف السينما الجديدة وانبهر بأفلام ما كان يسمى في الستينات من القرن الماضي ب "الموجة الجديدة". &وعند بلوغه سن الخامسة عشرة، ترك عتيق رحيمي كابول ليلتحق بوالده الذي كان قد فر إلى الهند. وهناك اكتشف اللغات والثقافات والديانات المتعدة والمختلفة في تلك البلاد المترامية الأطراف. &كما أنه أعجب بالموسيقا الهندية. وفي "حمالة الماء" يستعيد عتيق رحيمي من خلال البعض من الشخصيات تلك السنوات الهندية السعيدة. كما نرى صورته وهو يمضي إلى المنفى من خلال شخصية تميم الذي أصبح توم. وهو في طريقه إلى أمستردام لكي يلتقي المرأة التي يعشقها، يكتب عتيق رحيمي على لسان توم الذي كانت أفغانستان حاضرة في ذهنه طوال الوقت :"اللغة التي حكمت عليها بالصمت، وبالنسيان منذ أن اخترت المنفى، تهيمن دائما بطريقة أو بأخرى على &فكرك، وعلى مشاعرك، حتى ولو أنك تعرضها باللغة الفرنسية". &وفي مكان آخر من "حمالة الماء"، يكتب عتيق رحيمي قائلا :" أنت دائما في التيه. أنت منفي تائه. أنت وكيل متجول. أنت عاشق هارب. أنت زوج في حالة فرار. أنت أب غائب. وحياتك بوجهيها بين باريس &وأمستردام ، والتي ينكشف وجه منها &ليختفي الوجه الآخر، &تجسد بصفة متكاملة &تصدع اقتناعك المفقود والذي صُنع رغما عنك بين ما مرئي، ما هو غير مرئي، وبين ما هو حاضر وما هو غائب".