في كتاب "جلجامش - ملحمة الرافدين الخالدة"، نقرأ للباحث السوري فراس السوَّاح رؤيته للرسالة الثقافية والفلسفية التي تقدّمها هذه الملحمة، وما مدى تأثيرها على ثقافات ومعتقدات المشرق القديم والتي لـمَّا تزل حاضرةً في الوعي الإنساني حتى يومنا هذا. فالملك جلجامش هو أوَّل صورة للفردية الإنسانية، وهو النموذج الذي يمكن لأيّ شخصية في الجماعة أن تتشكَّل وفقه. فجلجامش –بحسب السوَّاح- هو أوَّل فرد في التاريخ، خصوصاً أن مطلع الألف الثاني قبل الميلاد كان الوقت الذي حدَّد مسألة تمايز الفرد عن الجماعة، حيث بدأت بالظهور الشخصيات التي تؤثّر في الجماعة عوضَ أن تكون انعكاساً لها.
يقول السوَّاح: "قبل هذه الملحمة لم نجد في أدبيات الشرق الأدنى القديم ملامح واضحة للفرد. فجلّها كانت تتعامل مع شخصيات إلهية طاغية صنعت الكون وخلقت الإنسان وبنت له مُدُنه وعلّمته وأسّست له تقاليده الحضارية، وهو الجانب السلبي المنفعل المتلقّي".
كان جلجامش حراً في مجتمع من العبيد، وكان متمرّداً ثائراً متحدّياً لـ"الآلهة". فهو، بدخوله الغابة حيث مرتع عشتار وعرشها، كان نداً للآلهة؛ يساوي نفسه بها، بل ويقهرها عندما يرفض عرضها بالزواج به. حتى اقتحامه الغابةَ له رمزيةٌ أعمق مما قيل.
فإذا ما استعنا بعلم النفس التحليلي في هذا المقطع من الملحمة، والتي خلَّفتْ أثراً لا يقلّ أبداً عن أعظم الابتكارات العلمية، نجد بأنَّ جلجامش بقطْعه أشجار الأرز ودخوله الغابة (شعر العانة)، كان يجامع عشتار رمزياً. ناهيك عن رموز أخرى تؤيّد هذا الرأي، مثل قطع رأس خمبابا (وحش الغابة)، وهذا يساوي رمزياً الانتصاب، والفأس تساوي القضيب. وأيضاً ما تدلّ عليه عبارة "غيب نصله" في رأس ثور السماء (الرمز المؤنث)؛ ثور عشتار.
ذلك كلُّه بصرف النظر عن جدلية تساؤلنا حول حصول هذه الواقعة تاريخياً، أم أنها كانت مجرَّد هواجس وأحلام ساورت الملك جلجامش وأضحت جزءاً لا يتجزأ من حياته، كما حصل في رحلته الثانية بعد موت رفيقه أنكيدو؟ وفي هذا الصدد يشير فراس السوَّاح إلى الطبيعة الحلمية (الهلوسية) لرحلة جلجامش الثانية بحثاً عن الخلود، والمختلفة عن رحلته الأولى، وذلك من خلال معطيات عديدة كاللقاء بسيدوري (فتاة الحان) والتي صادفها بجوار حائط الإقيانوس؛ وهو جدار خرافيّ يحيط بالكون في الميثولوجيا الرافدية.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.