في عام 1992 توفّي الكاتب الأمريكي ريتشارد ييتس عن ستّة وستّين عاما من دون أن تتحقّق له الشّهرة التي كان يرى البعض من كبار الكتّاب، والنّقّاد أنه جدير بها أكثر من غيره. وقد ظلّ طيّ النسيان حتى نهاية عام 2008. ثمّ فجأة أصبح وهو في القبر من مشاهير الكتاب في العالم بأسره! والسّبب في ذلك يعود إلى المخرج البريطاني صام مانديس الذي حوّل روايته الأولى "نوافذ بانوراميّة" إلى فيلم نال إعجاب الجمهور في جميع أنحاء العالم. وقد لعب دور البطولة في الفيلم المذكور ثلاثة من كبار النجوم هم: دافيد كاميرون، وكايت وينسليت، وليوناردو دي كابريو. وتدور أحداث أغلب الروايات التي تركها ريتشارد ييتس إلى الفترة الفاصلة بين الأربعينات، والسّتينات من القرن الماضي. وقد صدرت رواية "نوافذ بانوراميّة "عام1961 .وهي تروي قصّة شابّين في الثلاثين من عمرهما متزوّجان، ولكلّ واحد منهما طفلان، ويعيشان حياة صعبة ومعقّدة في ضاحية من ضواحي المدن الكبيرة. وتحت ضغط الضّجر، وثقل الحياة، يلجأن الى الأوهام والأحلام بحثا عن الخلاص. لكن في النّهاية يعيشان الخيبة والانكسار بسبب ترددّهما، وجبنهما، وعجزهما عن خوض المغامرات الكبيرة...

وعند صدور هذه الرواية، رحّب بها العديد من النقّاد والكتّاب المرموقين من أمثال ويليام ستايرون الذي وصفها قائلا :”إنها رواية ساخرة، وجميلة، وتستحق أن تكون من الروّايات الكلاسيكيّة!”. واعتبرها تينسي وليامز من أروع الروايات التي ابتكرها الخيال الأمريكيّ المعاصر. وحيّتها دوروتي باركر قائلة بإنها "تحفة فنّيّة". وبعد "نوافذ بانوراميّة"،أصدر ريتشارد ييتس مجموعة قصصيّة أبرزت مرّة أخرى موهبته العالية، وقدرته الفائقة على تشخيص الواقع في تضاريسه الظّاهرة، والمتخفّية. ومن خلال جلّ القصص، والروايات، تبدو أمريكا "قذرة، ومتوحّشة، وخبيثة ،وعفنة، ومريضة" .وتبرز موهبة ريتشارد ييتس العالية في فنّ الكتابة في مجموعته القصصيّة التي حملت عنوان :"اللحظة الأخيرة للجنون". وهي مجموعة تأثر بها كبار كتّاب القصّة القصيرة من امثال رايمون كارفار،وأليس مونرو الحائزة على جائزة نوبل للآداب لعام 2013.وتدور أغلب أحداث قصص المجموعة المذكورة في الولايات المتحدة الأمريكيّة في السنوات التي أعقبت الحرب الكونيّة الثانية، وتحديدا في الخمسينات من القرن الماضي. لذلك يحضر موضوع الحرب في جلّ القصص. يحضر في المنتديات العامة، وفي الحفلات الخاصة، وفي الجدل الدائر بين أفراد العائلة ،وفي النقاشات التي تدور بين مرتادي المطاعم والمقاهي والحانات الليلية. وفي احدى القصص يتباهى واحد اسمه ميللر ببطولاته في الحرب. وفي كل مناسبة صغيرة أو كبيرة ينخرط في الحديث عن بطولاته التي قد تكون من اختلاق خياله. وذات مرة طلب من صديق له يدعى توم بأن يروي هو أيضا واحدة من مغامرته خلال الحرب. غيرأن توم يغرق في الصمت. عندئذ تغضب زوجته غضبا شديدا ،وتنعته بالجبان ،والعنين .ولعل ييتس أراد من خلال هذه القصّة ان يظهر أن الكذب والتفاخر وتمجيد الذات واختلاق بطولات وهميّة هو ما كان يروق للمجتمع الامريكي بعد الحرب الكونيّة الثانية. وفي قصّة :”سهرة على الساحل اللازوردي" ،تثور زوجة جنرال في الأسطول السادس تدعى بيتي ماييرس على وضعها لأنها تجد نفسها مجبرة على الاعتناء بطفلتها البالغة من العمر خمسة أعوام في حين تجد صديقاتها الوقت للتمتع بالبحر، والسهر في المطاعم الفرنسيّة الفاخرة. وذات مرّة تنفجر غاضبة ،وتشتم الفرنسيين وساحلهم اللازوردي ناصحة اياهم ب"بيع بلادهم للشيوغيين".

وقد مارس ريتشارد ييتس تدريس فنّ الكتابة متنقّلا بين الجامعات لكسب قوته، من دون أن ينقطع عن التأليف غير أنه لم بكن يجني ما يمكن أن يضمن له الإستقرار، والنجاح والشهرة. لذلك تغلب الخيبة على جلّ رواياته، ويعيش أبطالها انكسارات ،ومخاوف دائمة. ولعلّ جميعهم يعكسون صورته، إذ &أنه كان كاتبا سيّء الحظّ بامتياز حتى أن أحد النّقّاد كتب عنه يقول :”إنّ ريتشارد ييتس يستحقّ جائزة الخيبة بامتياز". ورغم جمالها وروعتها، لم تحظى رواياته بالرّواج الذي تستحقّه أكثر من العديد من الروايات الأخرى. وبسبب الفشل والخيبات التي توالت عليه ، أدمن ريتشارد ييتس على التّدخين
فكان يدخّن أربع علب في اليوم الواحد، ويبالغ في الشّراب خصوصا بعد أن اشتدّت عليه الأزمات النفسيّة الحادّة. وفي الّنهاية مات مجهولا من قبل الجميع!
&