بقلم&إيمان البستاني


في روايتها الرابعة ( النبيذة ) الصادرة في بيروت عن دار الجديدة 2017 للصحفية والروائية العراقية ( انعام كجه جي ) التي تعُد من أفضل الروائيات العربيات حيث اختيرت "الحفيدة الأميركية لقائمة الصغيرة لجائزة بوكر العربية لعام 2011 وقد حصلت الترجمة الفرنسية ل "طشاري" على جائزة لاغاردير في باريس&

&ينفتح المشهد عن مستشفى عسكري باريسي شهير ( فال دوغراس ) ، الصندوق الاسود لصحة رؤساء وحكام العرب ،الامين على سرية ملفاتهم الطبية والمتكتم عن ديون فواتيرهم الثقيلة ،لتبدأ الحكاية عن نزيل مهم يحرس باب غرفته شرطي فرنسي تبين انه ( احمد بن بلة ) أول رئيس جزائري يرقد بأعوامه التسعين بعد ان عاش حياة تفاوتت بين السجن وكرسي الرئاسة ودرزن عمليات اغتيال نجا منها ليموت ميتة ربه، الاسم وحده أمطر سحابة ذكريات مدام شامبيون النزيلة على بعد امتار منه ،أرملة ضابط في المخابرات الفرنسية زمن الثورة الجزائرية ، مسّنة تتوكأ على عكازها وتتابع من على سريرها اخبار الياسمين العربي او مايسمى بالربيع العربي ، كانت المخابرات الفرنسية قد جندتها لأغتياله في القاهرة لكن قلبها لم يطاوعها يومها ويعود الفضل لها ببقائه حياً طوال كل تلك السنين &

المرأة مدام شامبيون او الجاسوسة هي تاج الملوك ، ايرانية من بغداد ، صحافية معروفة ورئيسة تحرير مجلة ( الرحاب ) التي حظيت بمساعدات و دعم الباشا نوري السعيد وفتحت لها مهنتها فرص لقاء كبار الشخصيات السياسية في عراق العهد الملكي أولهم الوصي عبدالإله
كانت لها حظوة وسطوة بفضل مجلتها ودعم الباشا لها الى ان جاءت معاهدة بورتسموث التي وقعها السيد صالح جبر رئيس الوزراء العراقي مع بريطانيا في كانون الثاني سنة 1948 وانتفاضة العراقيين ضدها والتي سميت ب( الوثبة )&
وازاء غضبة العراقيين وهتافاتهم المدوية ضد الحكم ،اضطر الوصي على عرش العراق الامير عبد الاله الغاء المعاهدة التي وقعت في بورتسموث ببريطانيا وانتصر فيها العراقيون
&
شاركت تاج الملوك تلك المظاهرات مما جعل رضى الباشا نوري السعيد ورجالات الحكم الملكي ينقلب عليها بعد ان كانت من الموالين فأصبحت من المعارضين ، موقف ادى بها الى ترك العراق والسفر الى كراتشي لتعمل في دار الاذاعة العربية هناك حيث ستذيع خبر إعدام الشيوعي العراقي (سلمان يوسف) المعروف بفهد ،كان معها في منفاها الاول زميل نال قلبها منذ ان حط في بغداد اسمه ( منصور البادي ) الفلسطيني الذي يجيد اللغة الأنكليزية بفضل دراسته الثانوية في لندن ،والذي هجر فلسطين من كثر الطاخ والطيخ ولجأ الى بغداد ثم انتقل الى كراتشي ليعمل مذيعاً في الدار
ساقته الأقدار بعد انتهاء عمله في اذاعة كراتشي الى فنزويلا وتبوأ مناصب عدة انتهت بأن صار مستشاراً مقرباً من الرئيس الفنزويلي شافيز ، اما تاج الملوك فقد عادت لمسقط رأسها في ايران بعدها تزوجت من الكوماندون سيريل شامبيون من المخابرات الفرنسية الذي استطاع تجنيدها لخدمة المخابرات ومنها محاولة اغتيال بن بلة أيام الثورة الجزائرية

تظهر الشخصية المحورية الاخرى ( وديان الملاّح) شابة في بدايات الاربعين صديقة ملازمة رغم فارق السن بينها وبين تاج الملوك ، تزورها يومياُ في مشفاها الباريسي وتمثل وديان هنا العراق إبان الحكم الجمهوري المتخم بالحروب والخسارات ، كانت قبل وصولها فرنسا تدرس الموسيقى في معهد الموسيقى والباليه في بغداد في زمن كانت موسيقاه الوحيدة هي صفارات الانذار وسقوط القذائف ، بعد تخرجها عَمِلت عازفة كمان في الفرقة السيمفونية العراقية التي كانت حفلاتها تضيء سماء بغداد بنوتات العزف لتبدد ضباب الرماد و رائحة البارود
وديان لها حبيب اسمه يوسف تقدم لخطبتها ، كان يدرّسها دروساً خصوصية في مادة الرياضيات ثم سافر الى أمريكا عاد منها بعد خمس سنوات بشهادة دكتوراه في الهندسة المدنية ليصبح استاذاً في كلية الهندسة ، حيث وجد نفسه في شلة ( الاستاذ ) الابن البكر لرئيس البلاد الذي كان معروفاً بنزقه السادي وحفلاته الصاخبة ، اجواء غيرّت من احوال الخطيب الحبيب و حدى به الى فسخ خطوبته بوديان التي نالت من الاستاذ عاهة مزمنة نتيجة تمزيق طبلة اذنها خلال احدى حفلاته التنكرية ، بعد فقدها الحبيب وحاسة السمع رأف بها القدر لتنظم السفارة الفرنسية في بغداد بعثة لعدد من طلبة مدرسة الموسيقى والباليه لإكمال دراستهم في باريس كانت وديان من ضمنهم ، خضعت بعدها لعمليات جراحية انتهت بعودة جزئية لحاسة السمع مستعينة بسماعات توضع داخل الأذن

شاءت الأحداث ان تلتقيان تاج الملوك و وديان في باريس وتنشأ بينهما تلك العلاقة الضرورة رغم فوارقها العديدة ، امرأتان من زمن مختلف ، واحدة بعدة اسماء وماضٍ طويل كذيل طاؤوس ، صور ولقاءات مع ملوك و رؤساء انتهت جميعها الى علب احذية يقبع كنزها تحت سريرها تعاني من وجع الذاكرة والثانية حياة خاوية بلا حب تلتجأ الى الإيمان تغطي رأسها بوشاح وتحضر حلقات حوار الأديان ولقاء مرتقب بين ( منصور البادي) الذي لم ينسَ حبيبته ( تاجي) رغم مرور كل تلك السنوات يعيش على الطرف الاخر من الكرة الارضية يُمني النفس بكتابة مذاكراته ولقاء مستحيل مع نبيذته حيث تنتهي الرواية و لاندري هل حدث اللقاء أم بقي أمنية ؟

وأن تقرأ لإنعام كجه جي عليك ان تستعد لكمية التفاصيل والأسماء والاحداث ، كجه جي وهي روائية لا تنسى ابدا ( كارها ) بأنها صحافية من الطراز الاول ، المميز المثقف العارف بأحداث الساعة ....خبيرة في زج شخصياتها المنحوتة بعناية من انصاف خيال وانصاف حقيقة .....تاج الملوك صاحبة مجلة الرحاب عندما بدأت بها الرواية جعلتني اترك مقعدي والجأ لمحرك البحث ، وانا ابحث كنت اشعر بأنها شخصية حقيقية من دم ولحم و ورق ....خرج البحث ان تاج الملوك عبدالحميد ربما هي أقدس عبدالحميد الصحفية التي ترأست مجلة الرحاب والتي اغلقت عام 1954

ما ورد عن الرئيس الجزائري في الرواية يقع جميعه تحت حقائق تم سردها بأسلوب محبك يجعل القارئ يتوهمه بأنه خيال ، ( مزياني مسعود ) هو بالفعل الاسم الحركي ايام الثورة الجزائرية للرئيس ( احمد بن بلة ) وقد تعرض بالفعل لعدة عمليات اغتيال فاشلة ثلاث منها في القاهرة والرابعة في طرابلس ليبيا، وما ذكرته الرواية هو محاولة الاغتيال الفاشلة في القاهرة

اجواء القصر الملكي وعشب حدائقه المبلل لطراوة صيف بغداد اللاهب واناقة الوصي عبد الإله الأرستقراطية ، وقهقهة الباشا بصوته المجلجل تخنقه بحّة السكائر &، انغام صوت سليمة باشا وهي تحي حفلات بغداد ،كوكب الشرق وهي تصدح في حفلة القصر استحقت بجدارة وسام الرافدين وهو اعلى شرف يستحقه انسان ، والجميل اكرم شكري القادم من بعثة انكلترا، سليد سكول و رسمه لتاج الملوك وهي مستلقية عارية ، وأفعى مرقّطة تستر أسفل بطنها، ينشغل عن تأوهاتها بباليتته وألوانه ، لم يفت كجه جي ايضاً حادثة استشهاد الشباب في وثبة كانون ومنهم جعفر شقيق شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري والذي أبنه بقصيدة رائعة مطلعها : أتعلم انت ام لاتعلم ....... بأن جراح الضحايا فم ....بأن تدرجها في محلها واقعة لا يمكن الالتفات عنها اذا ما جاء حديث الوثبة كلها مشاهد مقتطعة من حياة بغداد تغلغلت الكاتبة انعام كجه جي في تدوين تفاصيلها التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو عشقها لكل ما يمت بصلة لبغداد وتاريخها

ان تقرأ رواية ( النبيذة ) للكاتبة انعام كجه جي معناه ان تستعد لفك خيوط الخيال عن الواقع المنسوجة بذكاء وتستمتع بالكم من المعرفة الثقافية التي أثثت بها النص وخزين الامثال و المقولات الشعبية التي تطرز بها حواشي العبارات ، متعة توظف في جعل العمل الروائي مشاهدة سيمائية تبقى حلاوته في الذاكرة &ولكون ثلثي شخوص رواياتها هم &حقيقين من رصد الحياة لذا اعتبرت اعمال كجه جي الروائية بأختصار بأنها توثيق هام لمعاناة وطن
&