الحصر، بدايةً، هو شعور الإنسان بالقلق والضيق الشديدَيْن تجاه أمرٍ ما. وقد حدَّد أوتو رانك ثلاث مراحل للحصر يمرُّ بها الإنسان في بداية تكوينه البيولوجي والنفسي. وتلقي هذه المراحل الإجبارية بظلالها على مجمل حياة الإنسان، لكنَّ تأثيرها يختلف باختلاف الأفراد وطريقة تكوينهم وثقافتهم.
وقد تصبح هذه المراحل، مع مرور الوقت، المصادرَ الكبرى التي تقف وراء الحصر.
أولى هذه المراحل هي مرحلة "حصر ما قبل الولادة"، حيث الفترة التي كان يعيش الطفل من خلالها سعادته اللاشعورية وأمانه التامّ داخل أسوار رحم أمّه، إلى أن يقوم الرحم بـ"إنزاله من الفردوس".
الحصر هنا مصدره الخوف من زوال واقع لن يتكرَّر، وخروج نهائي من الديمومة التي تمثّلها أعماق المرأة وانقطاع تامّ عنها، بعد قطع الحبل السرّي والدخول في عالم الواقع والزمن المحدود والمنتهي.
وقد ذهب بعض علماء النفس إلى أنَّ مسألة المفاضلة في الأعمال والمهن لدى شخصٍ ما، ثمَّ اختيار الأصعب بينها، هي امتدادٌ لأسى الطفل القديم بقطع صلته بأمّه عند الولادة، وردّ فعل عنيف تجاه ذلك الحدث المفصليّ. كما أنَّ اختيار ترك منزل الأهل والهجرة خارج الوطن تحملان الدلالة ذاتها في تحدّي المشاعر الراغبة بإعادة الالتصاق بالأم، حتى لو بدت الفكرة أقرب إلى الشعر والأدب منها إلى التحليل النفسي.
ويذهب البعض الآخر من علماء النفس إلى ربط الكثير من الأفكار الإنسانية التي تتحدَّث عن الخلود وعن البعث بعد الموت إلى تلك المرحلة؛ كنوعٍ من السلوك التعويضيّ لأمرٍ تمَّ فقدانه.
المرحلة الثانية من الحصر تتشكَّل في فترة الرضاعة، ويحافظ الطفل خلالها على جزء من واقعه السابق &حيث الانتماء والحنان مختصران في صدر الأم. ويجد الرضيع في هذه الفترة بديلاً عمَّا قد خسره في السابق، إلى أن يأتي الفطام.
المرحلة الثالثة من مراحل الحصر الأولية هي مرحلة حضن الأم، حيث يكون الطفل قد خسر معظم حصونه التي تمثّل اللذة لمصلحة الواقع؛ ولم يتبقَّ لديه سوى حصن واحد هو حضن الأم، لكنه حصنٌ مشروطٌ بالخضوع والطاعة (حضني مقابل عدم عصيان أوامري).
يتعلَّم الطفل في هذه المرحلة العاطفة المشروطة والالتزام. فمسألة الخوف من غضب الأمّ وفقدان رعايتها هي مسألة في غاية الأهمية تظهر، في ما بعد، على شكل شعور دائم وغير مبرَّر بالذنب وتبكيت الضمير. حيث يشعر البالغ بالإثم دون أي سبب موضوعيّ، بسبب قانون تعسُّفيّ بدأ به حياته وتشكّلت بفعله أنا عليا متصلّبة لا ترحم.
أمّي تحبّني = أمّي ترعاني (بمنطق اللاوعي: أنا شخص مبارك) وعكس ذلك أنا ملعون وآثم.
ولا يفوتنا، ختاماً، التذكير بقول فرويد بأنَّ الحاجة إلى رعاية سماوية، هي بمعنى ما البحث عن رعاية أبوية بديلة.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.
&