في مثل هذا الشهر وفي الثالث والعشرين تموز 1932 كان جثمان الشاعر الفيلسوف الفنان المهجري الكوني جبران خليل جبران عائدا لينام في لبنان، متنقلاً من قبر مؤقت في أمريكا إلى قبر أبدي في قريته "بشري" محاطاً بالطبيعة وسحرها الذي شغل كتابات المهاجرين الاوائل. وافته المنية في 10 نيسان 1931 في امريكا حيث هاجر وأقام وأبدع منذ كان شاباً يافعاً وإلى آخر حياته التي كانت سلسلة من الابداعات المتجددة، كما كانت حلقة من المآسي الشخصية التراجيدية التي جبلت روحه على اللوعة والعزلة والتفكر في شؤون الروح والجسد ورحلة الروح الأثيرية.

رسالة من جاكلين الى جبران
عزيزي جبران، أنا جاكلين، ها أنا هنا قريبة جدا من امريكا، ولي مع الله وعشاقه مراسلات ونداءات عبر صفحات السوشسال ميديا وعلى فيسبوك. هل تدري كيف العشق الافتراضي موضة دارجة في زمن التواصل الاللكتروني المعاصر منذ بدايات القرن 21؟! مثلك عن بعد صار الكتاب والكاتبات ينخرطن في الحب البعيد المنال، أو في وهم العشق الافتراضي. &بفضول أقرأ رسائلك الكثيرة إلى ماري هاسكل &وإلى الأصدقاء المبدعين من المبدعين العرب والناشرين أيضا من كتاب بالانكليزية بورترية-ذاتي لخليل جبران. لشدة قلقي على حالنا المعاصرأتحسر على حالك وحالنا، وأثق بحضورك فينا لأن الكلمة حية. أكتب لأخبرك عن عشقي الافتراضي الذي لم يصمد أمام هذه الثورة التكنولوجية الرهيبة. مثلك أنا وغيري أحببنا عن بعد، توهمنا، تأملنا، تبادلنا الافكار والاخبار والصور، وانهزمنا قبل أن نموت. هل تعلم يا جدي الافتراضي -جبران، بأن الكتب التي لدي كانت هدية من صديقة كندية أصولها المانية. قبل تغادر تركت لي كتبها كي أتعرف عليك. لقد كانت امرأة أوربية فخورة بمعرفتك من خلال الكتب والكلمات التي ستكون خالدة وتنتقل من بيت الى اخر، من مكتبة الى أخرى، من متحف الى اخر في الشرق أو في الغرب. وربما اخر متحف لك كان قد اسس في مونتريال كندا عام 2008 في منطقة كيبك. وسيبقى اسمك مفخرة لنا حيث نكون بين "الأجانب" الذين يعرفون سيرتك الأدبية والشخصية. للأسف "سمعتنا" وصورتنا المعاصرة ليست زاهية. بل يصنف العرب والشرقيون اليوم في خانة الارهابيين والذين يثيرون الخوف والريبة. الأعداد الهائلة من المهاجرين الجدد الى كندا واوربا، لهم سيرة شائكة ، فمنهم يا جدي في عقده الخامس ولم يحدث ان ذهب الى مدرسة وتعلم القراءة والكتابة بالعربية. يذهلني ما أرى من طرقهم في التفكير والتصرف والمعاملة. لقد عاد بعض الشرقيون الى تفكير ما قبل الحضارات اذا سمحت لي أن أقول.
عزيزي جبران، لقد كنت سفيرنا الذي به نفخر و تركت فراغا لن يملأه أحد بعدك. كنت طفرة قصيرة الأجل فيريقيا وخالدة روحيا. وكم حاولنا أن نقتفي أثرك ونؤسس رابطة أو جمعية أو ملتقى لأرواحنا المنكهة في هذا المهجر، لكننا لم نفلح لأن النهش والانانية والأنا المتضخمة أقوى من المحبة والعطاء في هذا الجيل الذي قتلت الحرب فيه مقومات الجمال والبناء. سأكتب لك غدا بالتفصيل رسائل عن العشق والخرائب ومعاناتي في العمل مع المهجريين الجدد الذين قدموا عبر البحر ومن مخيمات اللاجئين وبدعم من الأمم المتحدة ومنظمات الاغاثة الدولية. كانت الحرب وما زالت تفعل وتقتل وتشرد شعوب الشرق الحزين. انت غادرت هذا العالم منذ 87 سنة في صندوق خشبي الى الشرق الذي كان حلمك &لتدفن في لبنان-بيتك.&
أغمضُ عيني الآن لأراك وأردد كلماتك التي كانت شاهدة على قبرك "أنا حر مثلك. أنا واقف الآن الى جانبك، فاغمض عينك والتفت، ستراني أمامك" نعم، سبقتنا وستبقى أمامنا وسيبقى نور كلماتك ابدياً عابرا لكل المعتقدات واليقينيات. أغمض عيني وافتحهما كي أرى الوقت يمر سريعا وعلي الخروج هذا الصباح لمواصلة الترجمة للمهاجرين العرب في كندا. سنلتقي، وسأخبرك عن التفاصيل الغريبة قريبا. سلام الروح الى روحك وقامتك الابداعية العالية، يا جدي الافتراضي. محظوظ&انت يا جدي لانك حظيت بمقام وومدفن ومتحف في بلدك الاول، فيما عشرات الكتاب يموتون بعيدا في المنفى منذ سنوات طويلة، ولا يجدون لهم مرقداً في البلاد، ولا شارعاً باسمهم ولا مكتبة&تخلد الإرث الإبداعي خاصته. استودعك الان، وإلى أن نلتقي! جاكلين، تموز 2019

كيف ولماذا أعادوا الجثمان إلى لبنان:
بعد فترة قصيرة من دفن خليل جبران في امريكا تدبرت أخته ماريانا ترتيب مراسيم العودة بالجثمان الى لبنان لأنه كان يحن الى الشرق ويحبه. شيعه المهاجرون السوريون واللبنانيون هنا بمهابة وحزن، واستقبله اللبنانيون هناك رسميا وشعبيا في احتفالات مهيبة. مر جسده المسجى في الصندوق أمام بيوت الفقراء والفلاحين والبسطاء، إلى أن وصل إلى نزله الأخير في "بشري" التي صارت مزاراً تاريخياً بسبب شهرة هذا الإنسان، الذي صار رمزا ذاع صيته وترجم الى 110 لغة عالمية. كتاباته عبرت الافاق وواصلت كتاباته الانتشار بين الشعوب، فكان نبياً بلغته المغايرة، بأسلوبه الجديد السردي الشعري الفلسفي، فناناً بريشة تنهل من عمق الجسد رمزية وفلسفة جبرانية. كان أدب جبران الأكثر مبيعا بعد شكسبير. فهو لم يهدر وقته&القصير في هذا العالم بل أنتج مادة خالدة، هذا الانسان الذي عانى الفقر والقهر واليتم والاعتلال الجسدي بقي مخلصا لنداء جواني تأملي شغله طوال الوقت.&

العشق الافتراضي والمرسلات بين جبران ومي زيادة وماري هاسكل
جبران خليل جبران جدنا المهاجر السوري اللبناني السرياني الكوني، ترك للمكتبة العالمية ارشيفا مهما من الرسائل الكاشفة لحالاته الشخصية ومعاناته اليومية وأفكاره في السياسة والدين وما بعد الموت. تواصل جبران فكريا ولسنوات طويلة مع الكاتبة مي زيادة التي لم يلتق&بها وتوله بها في علاقة عشقية روحانية. كما انه تواصل مع نساء اخريات، منهن الامريكية ماري هاسكل التي قدمت له المساندة والاحتضان والدعم بكل اشكاله من خلال تعريفه بالوسط الفني والثقافي الامريكي ومن خلال مساعدته في تنقيح كتاباته الانكليزية. كتب رسائله بشغف وتلقى الشغف نفسه. عشق ولم يقترن بمن أحب، توله ولم يسكن الى جسد. بقي في عزلته يناجي الأسرار الكونية ويحاول أن يسجل نبوة غير مسبوقة. نبوة المبدع المهاجر المقتلع من حضن الوطن ومن رحم الأبجدية الأم. في عصر جبران لم تكن الرسائل الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي الحالية قد غزت العالم كما اليوم، ولكن كان هناك مراسلات بريدية تعكس&اهتمامات تظهر في الرسائل التي تعتبر التي مادة حية مهمة من تاريخ الافراد والشعوب بشكل عام. كان جبران عاشقا للكلمة، كما كانت الكاتبة مي زيادة.

الرسائل في حياة جبران لم تكن الكترونية بل مكتوبة بالحبر الخالد
لقد ترك جبران إرثا من الرسائل الثمينة التي جمعت في كتب واصدارات باللغتين العربية والانكليزيةـ والتي كانت متداولة بينه وبين أصدقائه من الكتاب المهجريين الأوائل الذين شكلوا معا "الرابطة القلمية" أمثال: ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة، عبد المسيح حداد. بالعودة الى تلك الرسائل المنشورة بالانكليزية والعربية، أجد تلك الروح النادرة من المساندة بين أصدقاء ورفاق المهنة الواحدة. تبادل اخبار الكتابة وانتظار نشر قصيدة او نص او كتاب. فيما أرى العكس هو ما يحصل في هذه الحقبة المهجرية المعاصرة من موقعي الحالي ككاتبة مهاجرة لها ما يقارب ربع قرن في كندا شهدتُ خلالها عن قرب وعن بعد مراحل من علاقة الأديب المعاصر بثقافته الأولى ولغة المهجر الجديد-سمه المنفى، المغترب، المهجر. هنا نرى الصراع اليومي والاستهلاك المادي الفظيع، الانانية، الغيرة،الرغبة في الوصول الى سلطة ثقافية وعلى رقاب واقلام الكتاب المعاصرين. ويلاحظ أيضا الفقر الوجداني والابداعي الذي تنهشه التجاذبات السياسية المريرة. وكثيرا ما قلت: لو عاد جبران اليوم وقرأ الأدب المهجري المعاصر لبكى على فقرنا وعلى هذا العالم المعتل بقسوة.&

جاكلين سلام حنا، شاعرة وكاتبة سورية كندية
&