كتابة - إيمان البستاني

بلغة شعرية افلت منها ثقل خزف الكلام او تخمة المألوف واقتربت من طقس روحاني كالصلاة في الهواء الطلق بشفافية قريبة من اسلوب فن (الهايكو) احد انواع الشعر الياباني والفاظه البسيطة في التعبير بما يجيش في النفس بأبيات مضغوطة تختزل التجربة تتراوح بين ثلاثة اسطر، اكثر او يزيد بقليل، مليئة ببلاغة صورية، أو هي الكتابة كطفل بخبرة شيخ
بهذه اللغة البسيطة انجز الشاعر والناقد السينمائي العراقي سعد ناجي علوان اصداره الجديد "رماد الأب" ثيمة تقترب من كونها تابو عائلي بأمتياز، صادفته في نتاجي حنا مينا الشامي ومحمد شكري المغربي في اعمالهما حملا على ظهر ذاكرتهما ثقل معاناة معايشة أب لم يشغل موقعه كما يجب فأنقلبت الحياة الى بؤس وحزن صدئ .... رماد الأب نصوص شعرية مفتتحها مقدمة تشعرك بالتعاطف اراد بها ان يتحرر من رواسب لم يكن له يداً فيها سوى انها كانت قدره
يقول في مقدمته [لم ابك حين واروه الثرى... وجلست جانب القبر افكر بكل سنواتنا المشتركة.. التي تنساب الأن مع التراب الذي يخفيه عني شيئاً فشيئاً ليكون أبي حلماً مرة أخرى أو كابوساً مازال يؤرق وقتي.... فكان لابد من هذا النص الذي لا يشبه ما كتبت وما سأكتب لأتخلص من جميع مشاعري والتباساتها واعود لأحب ابي كما أريد أنا لا كما يريد هو...]
ينّوه سعد ناجي علوان في اول صفحة بأن نصوصه يمكن ان تقرأ كنص واحد أو تقرأ نصوص مفردة ...وبهذا تمكن المتمكن من ادواته الشعرية ان يدخلك عوالمه في اقل من بيتين او ان يبقيك بصحبة سرده لتكمل الاربعين صفحة ولك نفس التورية والرؤيا لإنسان على درجة عالية من الحساسية المفرطة، بيدين عاريتين حفر بئره الأولى ليرمي صورة أبيه كما يقول عن نفسه
مفتتح الكتاب كلمات للكاتب والشاعر اللبناني المقيم في باريس عيسى مخلوف حيث كتب [مائعة أحجار هذا المنزل وغير محصنة بما يكفي لتحمي طفولتنا ....] ومن هنا تجس عزيزي القارئ فحوى المحتوى.
لم اجد ادق واجمل تعبير عن سنوات الطفولة الا من تحت يد سعد ناجي علوان حين وصفها ببورتريه لخطايا العائلة البعض عنده سعادتها حتى يشمل الوصف الجميع، الطفولة تستطيع منها ان تتنبأ بالقادم وكأنك تشاهد لوحة.&
آلام
مجرد آلام
تكبر سنة بعد أخرى
الطفولة بورتريه شخصي
لخطايا العائلة
تفهم ان الرحيل دون وداع احد اسباب ازمته ولم يتغلب عليها وللان يسرح بفكره ليعطي للغياب سيناريوهات عديدة تعويض لحالة الفقد&
حين يذهب الأب
دون وداع&
من يملأ الفراغات
بالكلمات المناسبة
ويحدد أفق الصراع
احيانا تلمس حالة محاسبة بين الولد وابيه عكس المتعارف عليه وهو سجال مر يتفاعل سعد ناجي علوان مع نصه ليظهر كم الصراعات النفسية الخرساء التي قادها بلا صوت مسموع سوى ان تكون حديث الذات يلم امواجها المتلاطمة
كم مرة قلت لك
أنا الوحيد الذي أحبك
مدركاً مراتب الحنين
بعد أن كانت حياتك
أخطاءً شائعة
تستنبط ان الحب موجود لكنه باهت، مساراته لا تلتقي، مموسق بدرجة صوتية غير مسموعة، صمت صحراوي تحت مظلة جبروت ابوة شرقية، ربما ظلال فقر اسود كان ناباً ازرقاً قضم بحبوحة عيش مريح
باتت خطواتك تتعطل
فقدت فتنتك
ومثلما الحب&
كنت في الموت
بلا ملامح
تتجلى المحنة ببواكيرها الاولى في أول الوعي الباحث عن نقاء الروابط لا المظللة بلون رمادي باهت التارك بقية العمر في تساؤلات:&
لست الذي ولدته أمي
وسماه أبي خطأ وسافر
حين ضاعت تلك الطفولة
لم أعد مسؤولاً
عن هذه الحياة
في النص ادناه صورة جلية للعلاقة الابوية الشرقية التي انكوى منها كثيرون وظلوا وسط الطريق لا هو حب لينعموا به ولا كره ليتجنبوه ولا يعرفون من يلومون، كالملح لا يزهر ابداً، اليقين هنا ان زمناً طويلاَ ما يعادل حياة كاملة انقضى هكذا&
لم تعلمني كيف أحبك
ولم أتعلم كيف أكرهك
كان الوقت غربة بيننا
تبدو سنوات المحنة طويلة من كم الالتقاطات التي بنى فيها الشاعر نصوصه واحيانا يستوعب المشهد شخوص موجودين دون التنويه لهم
بينما نصغي إلى ألفة الحزن
ينمو النرجس عند النافذة
انتهى عبء الصمت
ما جدوى هيبة الكلام
يجسد سعد ناجي علوان البون الشاسع بين شخصية والديه، الام رمز اليد الخضراء التي تنتج حتى بعد رحيلها ويبقى الريحان حياً لان النساء تبكي اكثر من الرجال ولاتنام تبقى حارسة لنعاس اولادها، جاحد من يخون الامهات، بينما هو لا يزال يحمل عبء رحيل اب يقض طمأنينة روحه بذكرى حاضرة تمر كل ليلة&
في باحة الدار الخلفية&
زرع أبي شجرة الغواية
وزرعت أمي الريحان
مات أبي بعد أمي
صار الريحان ظل محبة
وبقيت أشباح أبي
تطرق النوافذ كل ليلة
يستمر سعد ناجي علوان في جزره و مده في العلاقة مع الأب كأنه يطرح ادلة ثبوتية امام قاض تُأكد ان هناك شرخاً كان، واضطراب علاقة تخللها غيابات متكررة دون مبرر وانتهت الحكاية بدون وداع
سنتان مرتا
قهوة الصباح على الطاولة
صورتك التي على الجدار
تشارك الضيوف حكاياتهم
واسمك مازال فضة
صامتة بين يدي
وعندما يوشك على نهاية نصوصه يعطي حكمه الشامل لنفسه ولمن مثله من معطوبي القلب&
أبي
او أي أب
سرق الأحلام
ولم يترك ذخيرة
للبهجة القادمة
أرسم مكان القلب ندبة

وهكذا ندبة لايلئمها قول ..... في الختام تستحضرني مقولة محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري المتصوف العراقي " كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة "، فالشاعر سعد ناجي علوان اختزل معاناته دون اقحام مملكة الشعر ببحورها وقوافيها بل حكى عن نفسه بلغة بسيطة البناء تبدو في ظاهرها سهلة المنال، لكنّه سرعان ما يتضح بفعل القراءة المتأنية المتأملة عن كون شعري لا متناهٍ في مشهديته.... ثم يستمر في نصوصه مستحضراَ كل هواجسه وذكرياته لمشاكسة النص.&
إنّ نصوص سعد ناجي علوان دعوة الى إعادة التأمّل، فهو يطرح تساؤلات قديمة جديدة عن استثمار الأبوة في بناء النفس لا ان تكون تضاد هدام.