ما زلت أمكث ها هنا لأحقق كل شيءٍ إلا إتمام مهنتي الأصلية التي غُرِسْتُ بأرض الحقل من أجلها. أمكث طوال النهار تحت سياط الشمس اللاهبة المتحالفة مع مناقيد مزعجة تنقر في رأسي طوال اليوم، فأستوعب حقيقة أني أُخيف كل شيءٍ من حولي ما عدا الطيور التي تستهزئ بي إلى درجةٍ صارت تستعير القش من بدني لتؤثث أعشاشها الصغيرة هنا وهناك.

وعلى العكس من الطيور الشقية، يزعق الأطفال بفزعٍ حين يتراءى لهم ظلّي أثناء المرور بجانب حقلي الصغير فتشدّ هند بقبضيتها على كفّيْ أخويها الصغيريْن سالكةً بهما درباً مغايراً نحو المدرسة، وإن كلّفهم الأمر بعض التأخير عن الطابور الصباحي. كانت الفتاة قد درَسَتْ العواقب جيداً وأدْركَت أن طعم التوبيخات من المدير أرحم من طعم الكوابيس الليلية التي قد تداهم ليالي الصغار إن مكثَتْ صورتي في مخيّلتهم الطفولية.

حتى الجدّات كُنّ ينْفرن من رؤيتي إن تقاطعَتْ سُبُلنا بالصدفة، فتحوقل أم محمود وتبسمل شفاهها برشاقةٍ عجيبة ما ان تعْلق نظراتها بكومة القش التي تحت قبّعتي، بينما تُطْلق أم فيليب تراتيل كنسية دون أن تنسى رسم علامة الصليب بوجهي غير آبهةٍ بالخشبتيْن التيْن تكوّنان صليب عمودي الفقري المغروس بالتراب.

ربما كانت ثياب الأموات التي ألبسوني إياها سبباً في هيئتي السوداوية المتجذّرة في عقول الناس. مازلت أذكر لِم كنت هيكلاً خشبياً حين رموا عليّ قميص أحد الأموات حديثي الوفاة لتكرّ السبحة من بعدها وتتعاقب عليّ ثياب الموتى وأسمالهم البالية كتعاقب الفصول على الحقل الذي أمكث فيه.

اليوم سألتحق أخيراً بالأموات الذين لبسْت ثيابهم طوال حياتي، فالثلج الذي بدأ بتكفين جسدي منذ الصباح قد محا كلّ ملامحي من أسفل العود الخشبي حتى قمّة القبّعة. كل ما أبصره الآن لوحةً بيضاء تحتلّ المشهد مع بضع أصواتٍ من حولي ظننْتها جزءاً من هلوسات الاحتضار، لكنها لم تكن كذلك، فقد ميّزْت صوت هند وأخويها التي تقدَّمَتْ نحوي واضعةً شيئاً يشبه الصوف حول عنقي وسط تصفيقٍ وضحكاتٍ طفولية. أيقنْت حينها أني سأحظى بخاتمةٍ جميلةٍ لحياتي المزرية، إذ لن أرحل بالهيئة القديمة، بل بهيئتي الجديدة وبالاسم الجديد الذي أحببته كثيراً حين أطلقوه عليّ ساعة الرحيل… "رجل الثلج".