محمد عفيف الحسيني

هو أيضاً، جاري في الأوتيل. تعرّفت عليه، ولم أكن قرأت له شيئاً من قبل. شاعر سوري كردي يقيم في السويد. ذات ليلة سهرنا معاً، ووضعني في الصورة المرعبة لمعاناة الكرد في سوريا. فهم يُعاملون هناك، من قبل النظام الأمني الفاشي، معاملة أقليّات مضطهدة. سرد لي عفيف قصصاً وأشياء مذهلة. حتى شعرت بالعار، لكوني أنتمي تاريخياً، لهؤلاء الجلادين العرب. حقاً يا للعار!
قلت له: أنا مع المظلوم، أينما كان ومهما يكن. ولكّم أتمنى، لجميع الأكراد، في الدول الأربع المستبدة، أن يقيموا دولتهم، على أرضهم التاريخية، كردستان.
وأن يرتاحوا أخيراً، من فداحة الظلم التاريخي الواقع عليهم. فمن غير المعقول، أن يُضطهد خمسون مليون كردي، وتحت حجج ومسميات مختلفة، إلى يوم الناس هذا، دون أن يرفّ للبشرية جفن.
قلت له أيضاً، إنّ مأساتنا ومأساتكم متشابهتان، بل هما توأم. فأنتم الكرد، مثلنا، تعيشون فوق أرضكم، ويحكمكم غرباء. لذا، على كل فلسطيني، أن يقف معكم. بعيداً عن هراءات القومية العربية المتنفّجة الفاسدة.
محمد عفيف، من حسن المصادفات، رُزِق بولد جميل، أثناء فترة المهرجان. أخبرني فهنأته من كل قلبي، متمنياً للوليد الجديد، طولَ العمر والسعادة، هناك في الوطن السويدي، بعد أن عزّت هذه في بلاد العربان!
واأسفاه! خرجتُ، بعد 45 عاماً، ولأول مرة، من غيتو الاحتلال الفاشي، متنسّماً نسمةَ هواء نظيف، في بلاد التنوير الحضاري، لأسمع من عفيف وسركون، قصصاً تشيب لهولها الولدان، عن ظلم بني جلدتي، لمن يعيشون بين ظهرانيهم، وهم أصحاب حق وأرض وحضارة وتاريخ.
إنها نفس التراجيديا التي نعيشها نحن، ولكن، هذه المرة، مقلوبة! عربٌ يضطهدون غير العرب. ثم بعد ذلك وأثناء ذلك، يتحدث هؤلاء البؤّسُ عن ظلم إسرائيل لهم، إلخ..إلخ!
كلا، فليذهبوا إلى الجحيم. ليذهب كل مستبد فاسد إلى الجحيم. فلا مصداقية لمن يقول الشيء ويأتي نقيضه الصارخ الماسخ!
محمد عفيف، المحروم من لغته الأم في سوريا، والمغترب في لسان العرب، يصدر مجلة رصينة في غوتنبورغ، باللغة الكردية، تهتم بشؤون الكرد، والأدب والثقافة الكردية. إنه أقل الواجب يا عفيف!
وإني، يا صديقي، أُحييك، على هذا الجهد الجليل. أُحيي فيك انتماءك لأهلك، وحرصك على تراثهم وحضارتهم، وإحياءك للغتهم العزيزة، التي منعكم العرب [ حقاً يا للعار! ] من الحق البديهي في التحدّث بها.
وصدقني، يا محمد، لو قلت لك، أنني شعرتُ بالاستياء منكَ، في آخر ظهيرة شعرية مشتركة لنا، حين سمعتكَ تقرأ شعرك الجميل، أمام الفرنسيين، بالعربية، وليس بلسان لغتك الأمّ.
فمَن غير الشعراء، في كل لغة، من يحرسون ويطورون هذه اللغة؟ عموماً، لا أعرف ملابسات وجودك، كشاعر كردي بلسان عربي، في هذا المهرجان. لكنني، آمل، في الدورات القادمة من لوديف، أن يُقرأ الشعر بالكردية والآشورية والسريانية، وجميع لغات، مَن دُرجَ على تسميتهم [ تلك التسمية الوقحة ] بالأقليّات في العالم العربي!
عندما جلستُ معكما، أنتَ وسركون بولص، تلك الليلة، ازداد يقيني رسوخاً، على رسوخ، بأن لا فائدة من هكذا أنظمة، لا لشعوبها، ولا بالبداهة، لنا كفلسطينيين. ومَن يعلّق منا، أهمية، عليهم، ما يزال، فهو واهم وساذج، ويستحق شيئاً أكبر وأكثر من خيبة الأمل الراكبة جمل!
أنا القادم إليكم من ظلم تاريخي طويل، ربما أكون، الأكثر قدرةً على فهمكم والإحساس بمأساتكم، من غيري. فكلنا وكلانا وجميعنا، في الظلم، شرق.
لذا، أتمنى منك يا صديقي النبيل، أن تضع اسمي نيابةً عني، في كل موقف ينحاز لصالح الكرد، ويحتج على الحيف التاريخي الواقع عليهم. إنني جد متعاطف معكم، وليتني أستطيع أن أقدّم لكم شيئاً آخر، غير " أضعف الإيمان " هذا..
ولا أخفيكَ القول، أنني، حقيقةً، لا أفهم، إلى الآن، موقف المثقفين العرب، عموماً، منكم ومن قضيتكم العادلة. فكيف يُعامل خمسون مليون كردي يعيشون على أرضهم التاريخية، كأقليات، ولا نسمع صوتاً لغالبية هؤلاء، وهم الذين صمّوا آذاننا بالحديث عن كل شيء، إلا هذا الجرح الأبدي!
أعرف أنّ الكمّ الأكبر منهم كذَبَة ومنافقون، وخادمو سلاطينهم، لذا لا أعيرهم انتباه. ولكنْ، أين أصوات الباقين من الشرفاء والقابضين على موقفهم ودورهم التاريخي، إن كان بقيَ مجال، في بلاد العربان، للحديث عن هذا الدور الواجب للمثقف؟!
واأسفاه يا محمد!
واأسفاه على شعوب خرجت من التاريخ!
على شعوب هانت على نفسها، فهانت على أنظمتها، فكان طبيعياً أن تهون على كل مغتصب طامع.
إن أفضل ما فعلته يا صديقي، رغم كل الألم، أنك خرجتَ مبكراً، من هذه البلاد الرثة. فلا قيمة لشيء فيها، بل لا قيمة حتى لحكامها التافهين، عند العالمين.
..أتمنى، وهل لضعيف ومقهور إلا الأمنيات؟ أتمنى لك ولكل المظلومين تاريخياً، والمضطهدين في بلادهم، أن يتدبروا أمرهم في منافيهم البعيدة، وأن يجدوا درباً، ولو ضيقاً، يوصلهم بالعيش الآدمي والكرامة الإنسانية في أوطانهم الجديدة، فلا أمل في الأرض العربية ولا توق لتغيير قريب من الداخل.
سلاماً لك في السويد، وآمل أن ألقاك، ذات يوم، ولا يهمّ أين.
وسلاماً آخر، حمّلتكَ إياه، في لوديف، لوردة العراق، الكردية الشاعرة، كولالة نوري، وأرجو أن يصلها عبرك. سلاماً لها في مغتربها العمّاني أو غيره، وألف شكر لهديتها الرائعة، التي وصلتني قبل مدة، فأدخلت الفرح إلى نفسي. سلاماً لصاحبة [ تقاويم الوحشة ]، الديوان الأنيق والجميل، ووعدٌ مني بالكتابة عنه، ذات يوم قريب.

صالح دياب
صالح دياب هو أول من اتصل بي من باريس، ليخبرني بالدعوة _ بعد أن بشّرتني بها، سهام داود، محررة مشارف، قبله بشهر. وعندما تقاعستُ قليلاً، كعادتي، اتصل صالح ثانية وثالثة، ليحثني على الإسراع، في إرسال السيرة الذاتية والقصائد والموافقة على تلبية الدعوة، وبعث كل هذه الأوراق، إلى إدارة المهرجان في لوديف.
إنه شاعر سوري أيضاً. شاعر أتى مدعوّاً إلى المهرجان، قبل سنوات، فآثر البقاء في فرنسا، ولم يعد إلى سوريا.
حدثني صالح، الرجل ذو القلب الأبيض، والشاعر المرهف، عن مدى ما عانى في باريس. عن تشرده وضياعه وجوعه ونومه فوق الأرصفة، وفي جنبات محطات المترو، والأنفاق..إلخ.
لقد دفع الثمن باهظاً، وبالأخص في سنوات اغترابه الأولى. لا بأس يا صديقي، فقد نجوت بجلدك، من بلاد تحكمها الديناصورات. وإني لعلى يقين، بأن أمورك، سوف تتحسن، تدريجياً، في مغتربك الفرنسي، القاسي نوعاً، لكن الرحيم والكريم، قياساً لما كنت تعانيه في بلادك.
صالح يعمل في الصحافة العربية، ومع بعض المؤسسات الثقافية الفرنسية، أعمالاً غير ثابتة، يعتاش من ورائها، ليتفرّغ من ثم، للكتابة، ولأحلامه عبرها.
شاعر في إهاب طفل، براءةً وطيبةً وحُسن طوية. ترتاح له منذ وهلة اللقاء الأولى. ولا يخونك انطباعُك الأوليّ عنه، بل يتعزز في كل لقاء تال. رجل بقلب من ذهب خالص. ولهذا، فمن الطبيعي جداً، ألا يكون لأمثاله مكان في بلادهم. ففي بلاد الديناصورات والتقارير المخابراتية، ومؤسسات النميمة، وعقليات المؤامرة، لا بد لصالح، ولأمثاله، أن لا يجدوا موطأ قدم ولا مرقد قلب!
حدثني صالح عن معاناته، من بعض الأسماء الثقافية الشائعة، والتي تعمل في الحقل الثقافي الصحافي، فتضطهد أمثال صالح، وتشتغل عليهم، كجسور، لا أكثر: جسور للوصول إلى مآربهم الشخصية الأضيق من خرم الإبرة. لقد حدثني صالح عن أحد هؤلاء، فقلت له إنني لا أعرفه، شخصياً، وأيضاً لا أستلطف كتاباته، ولا يشدني شعره.
قرأ صالح شعراً في لوديف، ووصلني. وتمشّيت معه طويلاً، في شوارعها الحلزونية، فأعجبتني شمائله وصفاته، ودخل قلبي، كمواطن وإنسان.
قلت له: آمل أن تتحوّل كل معاناتك هذه إلى فنّ. فهذا هو رهان حياتك، وهذا هو امتحانك الحقيقي مع القصيدة. إنه رهاننا وامتحاننا جميعاً، نحن المتحدرين من أرومة واحدة، هي أرومة الفن المقدسة.
ذكّرني صالح، بصديقي الأقرب إلى قلبي، خالد عبد الله. فهو مثله يعيش في عاصمة النور. ومثله، صعلوك وشاعر، يعيش الكثير من الحياة، لكي يكتب القليل من الشعر.
كم أحب هذا النوع من الشعراء. وكم أحب أن يعطي الشاعر نفسه كلها للحياة، ثم بعد ذلك، يكتب القصيدة أو هي التي تكتبه. ففي شعر هذه الفصيلة، غالباً ما نجد، ما لا نجده عند غيرها. سلاماً صالح، سلاماً خالد، وسلاماً لباريس التي تجمعكما تحت سمائها، وأقواس نصرها، أيها الرافعان أقواس النصر دائماً للحياة، والحرية، بما هما رئتا الشعر، ومصدر مجده الوحيد.

خالد عبد الله
عندما كنت أتهيأ للسفر إلى فرنسا، كان خالد هو أول مَن فكّرت فيه. وكنت أمنّي النفس، بلقائه، بل كنت آمل أن يأتي إلى لوديف، لنعيد وصل قصصنا وحكاياتنا، بعد أن انقطعت، وعزَّ اللقاء. فأنا لم أرى هذا البوهيمي من قرون وقرون! بل انقطعت بيننا حتى التلفونات.
أخذتني زحمة المهرجان، وغاب خالد عن تفكيري، إلى أن فاجأني، قبل انتهاء المهرجان بيوم، طالباً إياي على تلفون المديرة. تكلّمت معه، مؤنباً، على تأخير الاتصال، وعنّفته، فسرد لي قصة، جعلتني أرعوي ولا أواصل التأنيب. اتفقنا أخيراً، على أن نلتقي في مطار شارل ديغول، الذي سأصله في الحادية عشرة صباحاً، بعد غد، قادماً من مونبلييه، وهناك نتكلم. وجدت خالد في انتظاري، بعد أن تهت في متاهة المطار الكبير، الأشبه بمتاهة بورخيس! ولولا موظفة تونسية تعمل هناك، وتتكلم بعض العربية، على غير العادة، لكنت تهت ولم أركب طائرتي، كما حدث معي في رحلة القدوم!
لكنْ وا أسفاه. فالوقت المتبقي لي على إقلاع طائرة القاهرة، هو ساعة فقط لا غير. فماذا ستكفينا هذه الساعة، ونحن لم نلتق منذ سنوات وسنوات؟
أصرّ خالد، على أن أؤجل سفري لمدة أسبوع، وأن يستضيفني في شقته بباريس، فلديه بيت بغرفتين وصالون كبير، وهو رتّب جميع الأمور، لكي نحيا هذا الأسبوع أو الأسبوعين، كما نتمنى ونشتهي، في أم الدنيا باريس.
اعتذرت إليه، فأنا مجهد من السهر المتواصل طوال عشرين يوماً، وفضلاً عن ذلك، فبي قلق عظيم على الأسرة، وعلى مجريات الأمور في غزة، التي يتهيأ جلاوزتها للرحيل عنها، وما يترتب على ذلك، من مشاكل وأخطار.
قال خالد إنني أُضيّع فرصةً، ربما لا تتكرر في العمر مرتين! فمن يكون في باريس ولا يراها، بحجة الاستعجال في العودة إلى غزة الخاربة!
قال خالد إنه ابن باريس، ويعرفها متراً متراً، لذا لن أجد أفضل منه دليلاً، ثم إن كل شيء مهيأ، فماذا تريد أكثر؟
قلت له، أنا آسف يا صديقي، ولكنّ الحال كما ذكرتُ لك. فأنت تعرف أن بيتي يقع على حدود المستوطنة الأكثر تطرفاً بساكنيها من غلاة المتدينيين المهووسين. ثم إني قد أُستُنفدتُ، ولم تبق لدي صحة، لأتفسّح في عاصمة النور والجمال.
إنني أقرب الآن إلى شبح، فدعني أغادر، إلى غايتي، وهكذا كان!
سألت خالداً عن أخباره، واطمأننت عليه، من جهة الصحة والعمل والمسكن والإقامة، ثم تعانقنا، على باب المكان، حيث إجراءات التفتيش، وحيث مُنعَ خالد من الدخول معي، إلى حيث انتظار الطائرة.
كم كنتُ آمل أن يدخل، فنكسب هو وأنا نصف ساعة إضافية، لكن هيهات!
عندما تحرّكت طائرة إيرفرانس العملاقة، مغادرةً مطار شارل ديغول، نزلت دمعةٌ على وجهي. لقد أحسست لحظتها، ولحظتها فقط، بأنني تركتُ خالداً، وفارقته سريعاً من حيث لم يحتسب، وما كان يجدر بي فعل ذلك! فما بيننا من عشرة عمر وذكريات، لا يليق به هذا اللقاء السريع والعابر. لكنها تعقيدات الظروف غير الطبيعية [ ومتى كانت ظروفنا، منذ فتحنا عيوننا على غبار الحياة، طبيعية كالناس الآخرين؟! ]
أحسست بلوعة ما يشبه الفقد أو الفقدان. أحسست أن مشهد لقائي الخاطف مع خالد، كأنما هو مشهد، رأيته في السينما: كأنما هو حلم ليلة صيف، أو كأنما هو مشهد غير واقعي، وأبداً لم يحدث لي بالمرة!
فخالد مرّ أمام عينيّ المحمرتين، كالطيف، لا أكثر. ثم ماذا سأقول لأمّه، تلك السيدة الجليلة، عندما أزورها، لأطمأنها عليه! هل أقول لها إنني التقيته فقط لساعة أو نحوها؟ أعرف أنها سوف تسألني عنه، ألف سؤال وسؤال، بلهفة أمهاتنا الصابرات المرابطات، فكيف لي أن أطفىء عذابها ولهفة نظراتها، وأنا القادم إليها من جهة القلب؟
آه يا خالد...لقد أخطأت في حقك وفي حق أمّنا وفي حق نفسي، فما كان ينبغي لمثل لقائنا هذا أن يكون على هذا النحو، وهذه الصورة، وهذه التفاصيل. بعد أربع ساعات وثلث تقريباً، حطّت الطائرة، تحت غمامة سوداء عملاقة، فقال لي جاري البروفيسور المصري العائد: إنها القاهرة! غادرنا باريس، وكان رذاذ المطر يضرب شباك الطائرة من ناحيتي، حيث أجلس، ونزلنا في مطار القاهرة، فإذا هو فرن عظيم، خلوٌ حتى من نسمة هواء! شعرت باختناق حقيقي وليس من قبيل المجاز. فالمدينة، الملوثة تلويثاً مرعباً، كانت عبارة عن كراج سيارات كبير، بروائحه الكثيفة من العوادم.
و...وفوراً أكلني الندم!
فماذا خبلني، حتى أستعجل العودة إلى بلاد مغرقة في تخلفها العالمثالثي؟ تركتُ باريس، دون أن أرى منها، سوى مطار ديغول، وكنت على مبعدة خطوات أو كيلوات من متاحفها ومسرّاتها وسينها وحاناتها، ونورها الثقافي الذي يفيض على العالم أجمع...
عندما رأيت بعض المثقفين المصريين بالقاهرة، وقصصت عليهم القصة، ضحكوا من تصرفي هذا، وتحسروا على فوات الفرصة. فمن يكون في باريس ولا يرى باريس!!
صدقتَ يا صديقي خالد. قلت لي: لسوف تندم، وهأنذا، لم أتأخر، بل دخلت في ندمي بأسرع ربما مما توقعتَ أنت!
فمن عاصمة النور والذوق والرهافة، إلى مدينة مرعبة في قيظها ورثاثتها إلخ إلخ.
لكن، ثمة نقطة نسيتُ أن أخبرك بها يا خالد. ففي شارل ديغول [ هل تذكر؟ ] ذهبتَ أنتَ وسألت لي موظفة مغربية اسمها سونيا وهي بالفعل سونيا، عن مآل شنطتي، التي لم أستلمها ههنا، فاتصلت هي، وتأكدت أنهم، شحنوها من طائرة مونبلييه إلى طائرة القاهرة أوتوماتيكياً، فلا داعي إذاً للقلق.
صدّقنا سونيا الجميلة الطويلة مثل نخلة، فقط لأنها جميلة وطويلة مثل نخلة! ليتضح بعد ذلك، وحين وصلَ صاحبُكَ القاهرة، أن الشنطة لم تصل، وأن كلام الجميلات الموظفات، يحدث له أحياناً، هو أيضاً، أن يكذب!
اهتمّت بنا سونيا، من دون الطابور الطويل، فالعرْق دساس! واهتمت أكثر حين علمتْ أننا شاعران، وأنني قادم إليها من لوديف! لكن، كل هذا لم يشفع لي عند إخوتنا المصريين. ما ترتب عليه، تأخيرُ يومين كاملين، وحوالي مئة اتصال تلفوني، ومراجعات وتهديدات، ونشاف ريق، في طقس لا تقل حرارته عن حرارة الميكروويف! أي باختصار: أكلتُ مقلباً محترماً، وضحكتْ علينا سونيا يا خالد!
خالد! أنا أكتب إليكَ الآن من القاهرة، وبعد ساعات سأتوجه إلى غزة، مدينة صعلكاتنا الجميلة، وموئل الذكريات الأبدي. فسلامٌ إليك، وآمل لقاءك فيها، بعد زوال احتلالٍ، ربضَ على أنفاسها 38 عاماً كاملة.
.................إلى اللقاء يا صعلوك!

أنطوان جوكي

عندما أوصلني السائق المغربي الشاب، من فندقي بمونبلييه، إلى مقر إدارة المهرجان [ خمسين كيلو متر بمئة يورو! ]، كان أول شيء فعلته، هو طلب مترجم. فأنا ولا مؤاخذة أبيض من الغسيل الأبيض، مع اللغتين الإنكليزية والفرنسية!
رحبت بي المسؤولة وجيش موظفاتها المتبرعات، ودفعن الأجرة للسائق، ثم بدأن في ملاطفتي والترحيب بي [ كم هم لطيفون الفرنسيون! ]. وحين سألنني بعض الأسئلة، قلت لهن: لا بد من مترجم! رأين حيرتي، فاتصلت إحداهن بأنطوان جوكي، من باريس، فكلّمني أنطوان، وأفهمني أنه قادمٌ غداً، وأنهنّ الآن، سوف يقدّمن لي وجبة الغداء، ثم يأخذنني إلى الفندق، لأرتاح، فلا داعي إذاً للقلق.
أراحني اتصالُ أنطوان، وبالفعل، جاء الغد، وجاء معه أنطوان، لأكتشف أنه مترجمُ شعري إلى الفرنسية، وأنه، وهو الصحافي، قد ترجمه ترجمة ممتازة. بفضل ما يتمتع به الرجل من مستوى ثقافي، وإحساسٍ عال.
شاركني أنطوان في معظم أمسياتي، كمترجم. وفوق هذا وذاك، كان هو دليلي في متاهة لوديف بشوارعها وأزقتها، الأشبه بمتاهة بورخيس.
مغترب لبناني سرياني، في غاية اللطف والرقي والتحضّر. رقيق مثل نسمة، ولا يكلّ من الجهد الهائل الموصول ليلاً مع النهار.
خدوم من الطراز الأول. معظم الضيوف، يحتاجونه في غير شأن، فلا يردّ طلباً، ولا يشكو من فداحة الضغط المتواصل، طوال أيام المهرجان.
أحسست به، وتكلّمت معه بهذا الشأن، فقال: ما العمل؟ لا بد من مجاملة الناس، ولا بد من إرضاء الجميع!
كان أنطوان يسهر معنا، نحن شلة خيمة نيكول. فلا ينام قبل الرابعة. ما زاد من تأثير الإرهاق عليه، بتوالي الأيام التسعة.
سألته عن أحواله الشخصية، فأخبرني أنه يعيش وحيداً في باريس. وأنه لم يتزوج بعد. حضضته على الزواج والاستقرار، فهو في الأربعين، فأخبرني عن وجود جنين مشروع، من هذا القبيل، مؤمّلاً أن ينجح.
إذ قابل أنطوان، في هذه الزحمة الجميلة، فنانة رائعة، وحدث بينهما إعجاب مشترك، ومَن يدري؟ ربما تظبط!
أتمنى لك يا أنطوان، من كل قلبي، أن تظبط، وأكون أنا أول المهنئين. فأنت شاب وديع طيب وتستحق كل خير.
كان أنطوان هو دينامو المهرجان بامتياز. خدمَ الجميع تقريباً، ولم يقصّر في حق ضيف ولا مقيم.
والغريب العجيب، أنك، ما إن تحتاجه، حتى تجده أمامك، وفي الوقت الصّح.
احتجته في عدة قصص، خارج ترجمة الشعر، فلم يخذلني.
لذلك، سأظل أحمل لهذا الإنسان الراقي، كل تقدير ومحبة. فهو من أروع البشر الذين التقيتهم، ليس في لوديف فحسب، وإنما في حياتي.
سلاماً أنطوان، وأتمنى أن أهنئك بمناسبة الزواج، في القريب العاجل.

عبد الفتاح البشتي

شاعر ليبي، في الرابعة والخمسين من العمر، أمضى 15 عاماً منها، في غياهب سجون النظام هناك. مثقف دفع ثمن انتمائه لفكره اليساري، باهظاً وغالياً.
التقيته للمرة الأولى، على وجبة الغداء مع صديقه الحبيب السنوسي. رفيق قضيته في السجن، وصديق عمره، والشاعر أيضاً.
سألني عبد الفتاح، عن الأحوال في بلادي. فوضعته في الصورة، ثم سألني عن حالي الشخصي، وعن أولادي، وكم عددهم وكيف يعيشون أجواء الانتفاضة المبهظة.
أعطاني الإيميل، وأصرّ أن أنقل تحياته للأولاد، من عمّهم عبد الفتاح البشتي.
في اللقاءات المتتالية، أخبرني عن قضيته وعن معاناته، ووضعني في تفاصيل التفاصيل. تألمتُ عميقاً لما سمعتُ. وكنت، قبل سنوات لا أعرف عددها بالتحديد، قد قابلت في مهرجان المربد، صديقين له، مشاركين في المربد، ومن رفاقه في ذات القضية.
كان عبد الفتاح، مع رفيقه السنوسي، من أطيب الشعراء المشاركين، قلباً ونفْساً وروحاً. لم يترك السجن الرهيب، ولا سنوات الاعتقال الطويلة، ندوباً في أعماقهما، بل على العكس، عزّزا في روحيهما الرغبة في التعويض، والعيش المضاعف.
رجلان محبان للحياة، ومفتوحان على الصداقات، ومؤمنان بأنه، رغم كل السواد، فلن يصحّ غير الصحيح!
أحببتُ فيهما هذا النزوع الأصيل للحياة، ولتجاوز آثار ما عاشاه من ظلم وقهر وموت بطيء طويل.
كنت أمشي مع كليهما، ونسهر أحياناً، ثم نفترق، فأنظر خلفي، فأراهما وهما يجرّان خطواتهما الثقيلة، في مثل هذا العمر، عبر شوارع لوديف الليلية، فأغصُّ بالأسى والحسرة، وأشعر بالنقمة والغضب، على أنظمة عاهرة فاجرة، لا تسترجل سوى على المناضلين والشعراء والشرفاء من أبنائها.
أذكر، أننا، في ليلة، خرجنا إلى ضفة النهر، وكانت برفقتنا شاعرة ظلمتها الحياة، فأخذت هذه تقصّ علينا، ألمها ومعاناتها، فما كان من عبد الفتاح، في لحظة ما من توحّده معها، إلا أن فاجأنا، وسجد أمامها، إجلالاً وتواصلاً مع ألمها العظيم. هذا جانب من عبد الفتاح، وثمة جانب آخر، يُكمّل الصورة، ويُؤكّد أنّ: مَن يحترم الألم الإنساني، ويُحسُّ به، هو وحده مَن يُقدّر الحياةَ، ويحتفي عالياً بأفراحها الثمينة.
ففي ليلة تالية، في الليلة ما قبل الأخيرة على ما أتذكر، سهرنا حتى الثالثة صباحاً، أمام حانة يمتلكها جزائري. شربنا، وفي ذهابنا إلى الثمالة، رقصنا وغنينا ودبكنا، لينضمّ إلينا فرنسيون ومن مختلف الأجناس، نساءً ورجالاً، شيبةً وشباباً، ابتهاجاً بالحياة، وانتصاراً على أعدائها، أينما كانوا، وحيثما يكونون.
لم أدبك منذ مليون سنة، ودبكتُ ورقصتُ تلك الليلة!
كنتُ أنا [ اللوّيح ]، وكانوا هم الفِرْقة! اشتعل الحماس بالناس، رغم أنها الثانية صباحاً، وكان كل مارّ من ناحيتنا، ينضمّ إلينا.
كان مبلغ سعادتي، بعبد الفتاح خصوصاً، إذ رأيته سعيداً تلك الليلة، كما لم أره، طوال الليالي والأيام السابقة. قلتُ له: فلنرقص أيها الشاعر، لنرقص على شرف الشعر، الذي هو حليف أبدي لجميع أنقياء العالم، ولنرفع نخب الإخوّة الإنسانية، والصداقة، والجمال، عالياً. رقصنا، وفي آخر الرقصة، ووسط حشد من الرائعين والرائعات، تلاقت نظراتنا، عبد الفتاح وأنا، فتبللتْ عيوننا. إنه مجتمع الكوزموبوليتان، مجتمع الشاعر، وحلمُ الشاعر..ها هو يتحقق، على نحو، لا أروع ولا أبهى..ها هو يتحقق، فنرقص من عشرة بلدان، وبعشر لغات، كلها ذابت في لغة واحدة خالدة هي لغة الرقص. فما أجملها من لحظات، لم تترك وراءها غير غبار الملائكة! بل ما أجمله من مهرجان، حقّقَ، ولو لعشرة أيام، أخوّة البشر!
لِنَعشْ يا عبد الفتاح..لنعش ولنردّ على الطغاة بمزيد من العيش، وبمزيدٍ من حيوات مضافة! فهؤلاء هم أعداء الحياة، وحاملو ثقافة الموت، لذا لن نردّ عليهم، بلغتهم _ حاشا وكلا، بل بالرقص والشعر والغناء، يفيضُ من خطواتنا، نحن أبناء الحياة، ورافعي راية فرحها المقدس، هنا والآن، في يوتوبيا الشعراء المعاصرين: مدينتنا الودود لوديف!
أراد الطغاة أن يفسدوا علينا حياتنا، يا عبد الفتاح، فقُلْ لهم يا صديقي، هيهات هيهات!
أن نعيش الآن، وغداً وبعد غدٍ...ذلك هو نضالنا العالي، وتلك هي قضيتنا. فالشاعر، أيها الشاعر، هو هذا بالضبط. كلا، ليست هذه مجرد كلمات، بل هي الحقيقة، الحقيقة بما هي لحظةُ شعرٍ، الحقيقة بما هي لحظة شعرية، كهذه اللحظة، بامتياز. لنغن ولنرقص ولنكتب الشعر، فبهذا فقط، يعود الطغاة إلى ليلهم الذي من قار أسود، وتتقدم زغرودة الحياة.
سلاماً أخي وصديقي عبد الفتاح....
سلاماً لك وللحبيب السنوسي، ولأحمد..
وسلاماً للوديف، البلدة التي لم نقرأ فيها الشعر فقط، وإنما عشناه وعايشنا، بعد أن نزل من السماء، وصار واحداً منا
[ملاحظة: كان عبد الفتاح، كثيراً ما يردد أمامي، بيت درويش الشهير: " ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة "... وكم كنتُ أضحك معه، وأقول له: أما زلتَ تذكر هذا البيت، الذي ينتمي إلى أزمنة الديناصور! إنما،ههنا والآن، لا داعي، كما أرى، للتعقيب، فالاستشهاد يكتنز بفيض من الدلالات. ]

فاضل العزاوي

قرأت لفاضل العزاوي، قصائد متفرقة، في الصحف والمجلات، ولم أقرأ له ديواناً كاملاً، إلا عندما زرت العراق، في العام 1998، لحضور المربد. كانت قد وجهت لي دعوة، في العام السابق، وما إن أخبرني بها أحمد دحبور، بحضور مثقفين فلسطينيين، حتى رفضتها حازماً، قائلاً لهم، أنني لن أذهب إلى العراق، ما دام ديكتاتوره، باقياً فيه! سخر مني الحضور، وقالوا إنني لن أرى العراق، طوال حياتي على الأغلب، ما دمت متمسكاً بهذا الرأي والموقف! أصررت على رفض الدعوة، وسافر بدلاً مني، في تلك السنة، زميلي الشاعر عثمان حسين.
كان العراق، في ذلك الوقت - وما زال - هو شجني.
المهم: خفتُ أن تصدق نبوءتهم، فتخليت عن موقفي، وذهبت. فما ذنبي أنا حتى أُحرم من رؤية عشرات من الأسماء الحبيبة إلى نفسي؟
وقد كان.
في صباح يوم جمعة، أخذنا صديقنا النبيل، الشاعر والمترجم سهيل نجم، مع صديقه وزميلي، الشاعر الفلسطيني والأكاديمي د. عاطف أبو حمادة، إلى سوق السراي، لنتبضّع ببعض الكتب.
رأيت كومة هائلة من الكتب، بالأحرى: تلاً، وكان البائع يبيع كل 26 كتاباً من هذا التلّ، بما يعادل ديناراً أردنياً. تبضعت ولففت في السوق، مع إحساس ملازم بأنني أسرق، ثم اشتريت من التل مجموعة قديمة، كان من بينها ديوان فاضل العزاوي، [الشجرة الشرقية] في طبعته البغدادية الأولى. قرأت الديوان، في غرفتي بالطابق العاشر، من فندق المنصور ميليا، وأنا أطل من الشرفة على النهر الخالد. إنه من أعمال فاضل الأولى، ولا غرو أن يكون فاضل قد تجاوزه منذ قرون! هكذا هجستُ لنفسي، ما إن أتممت القراءة، وطويت الكتاب.
في لوديف، وحين تعرّفت على فاضل، ذكرت له هذه القصة، فأخبرني، أن هذا الديوان، ترك صدى كبيراً، عند كثير من الشعراء العرب، في ذلك الزمن. وذكر لي أسماءهم، التي للأسف، نسيت معظمها، ولم يبق منها سوى اسم صديقي الراحل محمد القيسي، في اشتعالات عبد الله وأيامه. قال فاضل، إن عبدالله، الذي كتب عنه في الشجرة، صار أشبه بالموضة، في ذلك الزمان.
فاضل، الآن، في منتصف الستينات، ويعيش في ألمانيا، ويكتب شعره التأمّلي والفانتازي، عبر قصيدة النثر. إنه يتنقل بين البلدان، وكما يبدو، لا يفكر بالعودة إلى العراق.
قلت له لطالما وقعت في التباس تشابه الأسماء بينك وبين ضياء! قال، لقد تعودت على ذلك، فكثيراً ما تأتيني دعوات، لأكتشف بعد حين، أنها موجهة إلى ضياء، وجاءتني عن طريق الخطأ! والأمر ذاته، يحدث مع ضياء.
قرأت مع فاضل في ليلة الافتتاح الأولى. وحضرت له أكثر من قراءة في ما بعد. لكَم تغير فاضل، ولكم تغيرت كتابته. إنه يكتب الآن، قصيدة النثر، في أغلب ما يكتب.
في ليلة الافتتاح، حصلت قصة طريفة: قرأت لمدة دقيقة، قصيدة قصيرة لي، وحين انتهى الحفل الكبير، جاءتني سيدة فرنسية عجوز، اكتشفت فيما بعد، أنها تعمل بائعة في معرض الكتاب، معربة عن إعجابها بقصيدتي. جاملتها، وقلت لفاضل، الذي كان يجلس بجواري، إنها أول معجبة أراها في حياتي، فانظر أيّ حظّ! سيدة فوق السبعين، إن لم تكن تجاوزت الثمانين! ضحك فاضل، وسرد هذه القصة، بعد حين، إلى ثلة من الشعراء العرب، ساخراً ومشفقاً على الشاعر المسكين، ومتمنياً له معجبة شابة!
أخبرني فاضل، مرةً، ونحن على الغداء، بأنه أحد محرري مجلة بانيبال، وأنه يترجم لها أحياناً، بعض النصوص، من العربية إلى الانجليزية.
حضرت له أمسية، ذات مساء، في باحة متحف لوديف، وكنت أقف مع الشاعر بول شاوول. قرأ فاضل العديد من قصائده، التفعيلية والنثرية، وتألّق. فعرفت كم تغيّرت عوالمه، وكم تطوّر. ما أعادني إلى همّ عدم التواصل والانقطاع، اللذين نعاني منهما، نحن المثقفين والشعراء العرب.
غادر فاضل، المهرجان، قبل نهايته، بثلاثة أو أربعة أيام، إذ كان مشغولاً بتلبية دعوة أخرى في مدينة أوربية. لم يتسن لي وداعه، وعلمتُ من زملائي بنبأ مغادرته، في اليوم التالي. فاضل شاعر كبير وإنسان ودود طيب. تجلس إليه فتأتنس بحديثه ، ولا تحسّ بفارق الزمن بين عمريكما. هذا هو الانطباع، الذي رسخ في ذاكرتي. والذي كوّنته، من خلال بضع ساعات، جلستها معه. لقد سافر الرجل، بعد أن ترك عطراً في المكان والزمان. وترك نفحةً من أسى العراقيين، في أعماق روحي. فتحية له في منفاه الذي طال. وتحية له وهو يحمل عبء الشعر، على كاهله المتعب.

الحلقة الأولى