لا يمكن لأحد إنكار فشل كل المحاولات لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين منذ الإعلان عن اتفاقيات أوسلو وتوقيع معاهدة السلام في واشنطن عام 1993. وهناك العديد من التحليلات والفرضيات حول أسباب فشل تطبيق هذه الاتفاقية أو محاولات أخرى من قبل جهات خارجية لإحلال السلام أو للتوصل إلى حل سياسي للنزاع في أدنى حد.

من بين هذه الأسباب، هناك أسباب سياسية داخلية لدى الشعبين، أي ضعف الزعماء سياسياً في كلا الطرفين، وخشيتهم من تقديم التنازلات للطرف الآخر، مما كان سيهدد مركزهم السياسي، وبالتالي سيؤدي إلى إسقاط حكمهم.

ولكنني أريد أن أركز على أحد أهم الأسباب، وهو نجاح الجهات المتطرفة لدى الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في إحباط هذه المحاولات، وهذا ما نراه في كل محاولة من هذا القبيل.

ولنبدأ من اتفاقية أوسلو، التي حظيت في حينها بتأييد شعبي إسرائيلي وفلسطيني واسع حسب استطلاعات الرأي العام التي أجريت في تلك الفترة. ولكن سرعان ما أطلقت حركة حماس المتطرفة سلسلة من الاعتداءات الإرهابية الشنيعة، حيث أرسلت انتحاريين لتفجير الحافلات والمطاعم والملاهي والمتاجر، لتسقط ضحايا مدنيين إسرائيليين بدون تمييز. وقد أدت هذه الاعتداءات الإرهابية إلى تراجع ملموس في الرأي العالم الإسرائيلي بالنسبة إلى إمكانية تحقيق السلام مع الفلسطينيين، وهذا الأمر استغله متطرفون في الجانب الإسرائيلي لارتكاب مجزرة الحرم الإبراهيمي على يد باروخ غولدشتين، ومن أجل التحريض ضد السلام والحكومة، مما أفضى إلى اغتيال رئيس الوزراء يتسحاك رابين وخسارة شمعون بيريس في الانتخابات أمام بنيامين نتنياهو واليمين.

أمَّا في عهد حكم نتنياهو الأول، فلوحظ انخفاض نسبي في عدد العمليات الإرهابية، ما عدا حادث أنفاق حائط المبكى، وهو حادث استثنائي تم تحجيمه. ويمكن أن نرد هذا التراجع إلى شعور الحركات المتطرفة بأنَّ اتفاق أوسلو لن يتم تطبيقه، بالرغم من عدم إلغائه رسمياً من قبل نتنياهو.

ثم وبعد هزيمة نتنياهو في الانتخابات أمام إيهود براك، نلاحظ مرة أخرى ارتفاعاً في عدد الاعتداءات التي بلغت ذروتها أثناء اجتماع كامب ديفيد في واشنطن، حيث رفض ياسر عرفات مقترحات كل من براك والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، خوفاً من تهديدات حماس وجهات متطرفة أخرى، وربما لعدم رغبته في دخول التاريخ كالزعيم الذي تنازل عن الحلم الفلسطيني، أي الدولة من النهر إلى البحر.

وعلى هذه الخلفية، تذرعت الجهات المتطرفة الفلسطينية بحادث صعود زعيم الليكود أريئيل شارون إلى الحرم القدسي لإطلاق الانتفاضة الثانية، مما أدى إلى إسقاط حكومة براك وتولي شارون رئاسة الوزراء ونشوب معركة "السور الواقي" لإعادة السيطرة الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وبعد أن أعلن شارون عن خطة الانفصال عن قطاع غزة، كرست حماس جل جهودها للإطاحة بالسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس والاستيلاء على القطاع، وفيما قد يعد خطأ استراتيجياً وسذاجة سياسية، حث الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش كلاً من عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت على إجراء الانتخابات في السلطة الفلسطينية، بالرغم من تحذير جهاز الشاباك من احتمال فوز حماس بها، وهذا ما حدث بالفعل، وأفضى إلى صراع دموي بين حركتي فتح وحماس واستيلاء الأخيرة على قطاع غزة. ثم في فترة ولاية أولمرت انتقلت المعركة إلى الشمال، حيث لعبت منظمة حزب الله الدور الرئيسي في الصراع ضد إسرائيل وذلك في خدمة إيران التي شرعت في تطبيق خطتها للاستيلاء على الدول العربية الأكثر ضعفاً مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن. أمَّا فترة ولاية نتنياهو الثانية التي بدأت عام 2009 وتستمر حتى اليوم، بعد أن تخللتها فترة عام ونصف العام لحكم بينيت ولابيد، فاتسمت بالمد والجزر، حيث يمكن ملاحظة ازدياد عدد الأعمال الإرهابية من جهة حماس والجهاد الإسلامي بعد الإعلان والتوقيع على اتفاقيات إبراهيم في 15 أيلول (سبتمبر) 2020.

إقرأ أيضاً: تفنيد المزاعم حول كون إسرائيل مشروعاً استعمارياً غربياً

وفي أثناء مراسم توقيع الاتفاقيات، أطلقت المنظمتان رشقة من الصواريخ باتجاه مدن إسرائيلية. ثم كثف هذان التنظيمان من نشاطاتهما الإرهابية التي بلغت ذروتها في شهر أيار (مايو) 2021، حين أفضى تحريض حماس إلى اندلاع اضطرابات في المدن المختلطة بإسرائيل ونشوب معركة "حامي الأسوار" أو معركة "سيف القدس" بتسمية حماس. ولكن، وبعد توجيه الضربات إلى حماس في القطاع، واصل نتنياهو سياسته التي قضت بالسماح لحماس بتلقي الأموال القطرية وبإدخال المزيد من العمال الغزيين إلى إسرائيل، ظناً منه أن ذلك سيثني الحركة عن اتخاذ خطوات عسكرية ضد إسرائيل ويوسع الشرخ بينها وبين السلطة الفلسطينية مما سيضعف مكانة الأخيرة. غير أنَّ هذه السياسة قد انهارت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 عندما أطلقت حماس هجومها الهمجي والمباغت والذي كان أحد أهم أهدافه إحباط التقارب والاتفاق المتبلور بين إسرائيل والسعودية، الأمر الذي اعتبرته حماس بمثابة ضربة قاصمة لها ولأيديولوجيتها.

كما انسجم هذا الموقف مع السياسة الإيرانية التي كانت ولا تزال، تسعى لإحباط إمكانية إنشاء محور للدول المعتدلة بدعم أميركي مما قد ينال من نفوذها في المنطقة.

ويستدل من كل ما ورد أعلاه من أحداث وتطورات تاريخية أنَّ الجهات والمنظمات المتطرفة كان لها، وللأسف، دور كبير في إحباط كل المبادرات لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وفي ضعضعة الاستقرار في المنطقة برمتها، وإذا أردنا أن نصل إلى السلام المنشود، أو إلى حل للنزاع، فعلينا أولاً أن نتعاون في القضاء على التطرف والإرهاب.