عشتُ في الجنوب سنواتٍ عديدة من طفولتي، حيث البيئة المختلفة من الصحاري والمدن؛ فتعرفتُ على أنواع الأفاعي والعقارب، واستنشقتُ الأغبرة الحمراء، ودرستُ الابتدائية في مدارس الصرائف وفطورها الصباحي؛ من الحليب وحبوب السمك أيام الملكية، وقضيتُ سنوات لا أرى الكهرباء إلا ضياء "اللوكس"، الذي كان يعمل على الغاز في ذلك الوقت.

لقد تشبَّعتُ بالثقافة الشعبية لأهل الجنوب وعاداتهم وتقاليدهم؛ حتى شعرت بأن الروحَ البغدادية قد ضعفت في النفس، وصرتُ جنوبيًّا، قلبًا وقالبًا، في العيش والطباع، ومواطنًا مخلصًا لأهلها وبيئتها.

كانت محطة قطار (لقيط)، وهو اسمها الرسمي في الهيكل الإداري للسكك الحديد، هي المحطة الصحراوية الأولى في حياتي، وهي منطقة صحراوية تعجُّ بالرمل والعقارب والأفاعي والذئاب والثعالب. وكان البيت في وسط هذه الصحراء الرملية؛ حيث بنَتْه دائرة السكك من الطابوق لمدير المحطة، الذي كانت مهمته تنظيم حركة سير القطارات المختلفة بتوقيتاتها.

وهناك بالقرب منه عددٌ من البيوت الصغيرة الخاصة بالعاملين مع والدي؛ الذين كانوا يُسمَّوْن المِفصليّين "المقصجيّة"، وعملهم هو تغيير حركة سير العربات وفصلها عن القطارات، واستداريات من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، كما كانوا يتعلقون بالعربات، حاملين رايتين: واحدة حمراء للتوقُّف، وأخرى خضراء، وهي علامة الأذن بالسير والانطلاق.

لقد صُعقتُ عندما نزلت من القطار في هذه المحطة ذات مساءً، فلقد هبت بقوة عاصفة رملية ورياح عاتية؛ فمنعتنا من السير، كانت أعيننا تكاد لا ترى؛ ولم نجد مخرجًا لتخفيف ما نحن فيه من الخوف والهلع إلا بالحديث مع الوالد، على اختيار هذه المحطة المرعبة، وعند وصولنا إلى البيت فتشنا عن تلك السعادة التي كنا نعيشها في محطة البصرة؛ فوجدناها قد سُرقت منا! فأحاطنا اليأس من كل مكان، وتعكَّر مزاجنا، وتعمَّق خوفنا من المجهول القادم.

وفي الصباح، استيقظتُ وسط هدوء غريب، ولم أنتظر استيقاظ الأهل؛ بل أسرعت للباب، من باب الفضول، لأرى ما لم أره مساء أمس؛ رأيت لوحة بيضاء ممزوجة باللون الذهبي، بين رمالٍ مسطَّحة وكثبانٍ متعرّجة، وسراب خادع، ينتهي زيفه بعد مسافة، لكي يتوقف البصر عن الرؤية. أصابني منظر الصحراء بالذهول، وأعادني إلى الحقيقة التي تختفي وراء هذه الرمال، وصرتُ، مع مرور الأيام، صديقًا لها؛ لا معاتبًا.

عشت عاميْن في هذه المحطة، واكتشفت أنني كنت على خطأ في تقدير الموقف. وبقدر ما يُعطيك البحر والمدن من أفكار ومعارفَ وطاقات؛ فإنَّ الصحراء، رغم قسوتها وجفافها وحرارتها، تفتح لك بابًا جديدًا لرؤية الحياة من زاويا أخرى؛ منها ما هو ترميم للذات، ومنها الاحتماء من نزعات قلق المدينة وضجيجها، ومنها صفاء الذهن والسكينة، والإصغاء إلى طنين الصمت، ومواجهة التحديات الصعبة، والتأقلم مع المشكلات والنكبات، والخصوبة في التفكير والتأمل.

فضاء غريب يملؤه لهيب الشمس؛ لهيب اللحظة الأولى لصدمة الإدراك البشري لعالمٍ جديد، مصبوغ بألوان الخيال ومحاط بالتأمل والبساطة، وفلسفة الصمت، والطهارة والنقاء، ورَحم التشكل، والجحيم والفردوس في آنٍ معاً، وهي عند الروائي الليبي إبراهيم الكوني "جحيم الحرية".

إقرأ أيضاً: قصتي مع الصحافة الجامعية

كان والدي، رحمه الله، صديقًا للعمال، ومتعاطفًا معهم في العمل وخارجه، ولم يُشعرهم يومًا أنه رئيسُهم؛ فقد كان يشرب الشاي معهم، ويُقدم لهم الطعام بنفسه بمنتهى التواضع. كان والدي طيب القلب، رغم عصبيته، كان حليمًا في قراراته، وكثيرًا ما كان يحدثنا عن فقرهم، وظروفهم التعيسة، ونفوسهم الكريمة، بدمعة الرجال. ربما كانت ثقافته الماركسية، المنحازة للعمال الكادحين هي السبب في هذا الشعور.

كانت محطة "لقيط" منعزلة عن العالم الخارجي؛ حيث كنا نجد صعوبة في توفير السلع الغذائية؛ لكن الهور القريب منها كان يحتوي على خزين من الأسماك، وعلى مربي الحيوانات - وخاصة الجاموس -، فلم يكد يمر يومٌ إلا ونأكل سمك "الهور" الذي تبيعه النساء، وكذلك "القيمر" بطعمه اللذيذ المميز، والأجبان المختلفة. وحتى يومنا هذا، ما زالت لذة السمك والقيمر تحت اللسان.

لذلك لم أودِّع "لقيط" الصحراوية، إلا وقد خرجتُ بحصيلة حياتية، ساعدتني بعد ذلك في تقوية الذات؛ فالتعليم ضروري في أي مكان، فقد درست الابتدائية داخل صريفة من سعف النخيل، وخلال عامين بدأت أقرأ الصحف، بينما لا نجد ذلك في طالب اليوم وهو يدرس في المدارس الحديثة! وليس عند معلم القراءة، وهو يعلمهم لغة الضاد.

إقرأ أيضاً: كواتم الحرب السيبرانية

كما ترسَّخت في طفولتي: قوةُ الملاحظة، وشجاعة المواجهة، والصبر الطويل؛ فواجهت لمراتٍ عدة لسعَ العقارب ولدغ الثعابين، وعضة الكلاب المتوحشة، وفوق هذا وذاك تحيطني رهبة الليل وظلامه الدامس؛ لذلك قابلت لدغ البشر بصبرٍ وحكمةٍ وتسامُح.

خرجت بحصيلة في فلسفة العيش في الصحراء؛ بأنها تعطيك أشياء كثيرة دون أن تشعرك بقيمتها عند أول وهلة، تخدعك في عالمها الجاف والقاسي ولونها الواحد، وسرابها الممتد على الأفق مثلما هي خزين المفاجآت والأسرار الدفينة، حيث تدفن خزائنها وكائناتها البشرية والحيوانية في صمت الحياة.

عشت فيها متأملاً في أفقها الواسع، زاهدًا في المشاهد والأبهة التي رأيتها في المدن، غارقًا في تأمل ما تصنعه من مباهج البصر، وقسوة ما تعطيه من حرارة الطقس والكثبان الرملية، والإحساس الدائم بالخوف من المجهول، مثلما هي عطاء يتفوَّق على الذات في عنفوانها، حيث تستيقظ الأحاسيس البشرية نحو استنطاق حروف الحياة بالعطاء والإبداع.

إقرأ أيضاً: قائد بلا منصب

ويمكن القول: إنّ الشعر العربي وليد الصحراء، فقد كانت منهلًا للمعارف والآداب، وشكّلت للعلماء جزءاً جوهريًّا من مسيرتهم العلمية، ومخزنًا لغويًّا حيًّا يغترف منه النحويّون واللغويّون والأدباء، دون أن يجدوا في ارتحالهم للبوادي ما يخدش وقارَهم العلمي.

لذلك قرأنا أسرار الصحراء وعوالمها السرية من خلال ساكنيها؛ ففيها كانت ولادة الشعر والشعراء، وهي أيضًا ركنٌ من أركان المُخيِّلة الأدبية العربية، حيث عاش فيها أمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم والمتنبي والمعري وغيرهم الكثير، وهم يقرضون أشعارهم البهية فوق كثبان رمالها الذهبية، وقمرها الساطع الذي ينشر ضياءه في أفق الصحراء العربية. حيث المعلقات الشعرية، التي تعد من روائع الأدب العالمي على مر العصور.

إقرأ أيضاً: أنا وحروف جر القراء

ويبدو أنَّ الصحراء برمالها وجدبها وقحطها وعطشها، وكثبانها، وذئابها وجمالها، وأفاعيها وعقاربها، وقسوة حياتها، عالمٌ يزدحم بالخيال وصناعة العقل والشعر، وفضاءٌ للتأمل، ومنبعٌ للإلهام الثقافي، ومدرسةٌ للصبر وشجاعة الذات، فضاءٌ يمتحن قدرةَ الإنسان على التحمُّل والصبر وصناعة النقاء والجمال. إنها الصحراء، قصة العشق بين حبات الرمال الذهبية الناعمة، والكلمة الصافية، والجمال المبهر.