إيلاف من بيروت: أصدرت إدارة "مهرجان بيروت الدولي للسينما" بياناً أسفت فيه لإعلام الجمهور بأنها تبلّغت من السلطات الرسمية المختصة عدم إجازة عرض فيلم "أمور شخصية" للمخرجة الفلسطينية مها حاج، الذي كان مدرجاً ضمن برنامج الدورة السادسة عشرة من المهرجان، وذلك قبل ساعات من حفل افتتاحه. كما أشارت لاستبعاد فيلم آخر من فئة "البانوراما الدولية" إذ أن السلطات اشترطت للسماح بعرضه حذف مشاهد منه، وهو ما رفضته إدارة المهرجان. بالإضافة إلى فيلم "ليالي شارع زايندة" للمخرج الإيراني محسن مخملباف الذي لم يحصل على إجازة العرض حتى الآن.

وجاء في بيانها: "إن إدارة المهرجان، وبصرف النظر عن مبررات عدم إجازة عرض كل من الأفلام الثلاثة، تأسف لاقحام الاعتبارات السياسية في الثقافة والفن، وللتعاطي مع الأعمال الثقافية والفنية من خلال نظرة ضيّقة، ووفق لغة خشبية. 

إن مهرجان بيروت الدولي للسينما سعى إلى أن يكون منذ انطلاقه منبراً لحرية الراي والتعبير، ومساحة للنقاش في شأن قضايا المنطقة والعالم، الإجتماعية والإقتصادية والبيئية والسياسية. غير إن حظر عرض عدد من الأفلام يسيء، يا للأسف، إلى صورة لبنان كمحور للتعبير الحرّ في المنطقة.

وفي ضوء قرار عدم إجازة الأفلام المشار إليها، سيتم تعديل برنامج العروض، على أن يتم الإعلان عن هذه التعديلات لاحقاً.

أمور شخصية
وعليه، فإن ما ورد في البيان أعلاه يطرح جدلية الصراع المستمر بين حرية التعبير في السينما الهادفة على مختلف رسائلها ومقص الرقابة المحكوم بيد السياسة ومواقفها ومصالحها في غالب الأحيان. ففيلم "أمور شخصية" للمخرجة الفلسطينية مها حاج، يطرح مشاكل ضحايا احتلال فلسطين ومواطنيها في الضفة الغربية وغزة الذين يطلق عليهم "عرب 48" ويناقش مسألة التخوين التي تلاحقهم لحملهم الهوية الإسرائيلية فيما يطرح إشكالية تشبثهم بأرضهم في ظل ظروفهم الصعبة، ورغم أنه عُرِض بقسم "نظرة ما" في الدورة 99 لمهرجان كان السينمائي. وبالرغم من عرضه رسمياً باسم الدولة العبرية، إلا أنه ناطق بالعربية ويتناول هموم وقضايا الشعب الفلسطيني، ويشارك في تمثيله ميساء عبد الهادي، دريد لداوي، عامر حليحل، حنان حلو.

الملصق الدعائي لفيلم "ليالي شارع زايندة" للمخرج الإيراني محسن مخملباف

ليالي شارع زايندة
أما فيلم "ليالي شارع زايندة" للمخرج الإيراني محسن مخملباف الذي تم إنتاجه في العام 1990، فقد عُرِضَ في افتتاح تظاهرة الأفلام الكلاسيكية في الدورة 73 لمهرجان فينيسيا السينمائي، وذلك بعد أن تمكن المخرج من استعادة وترميم نسخته التي ظلت مخزونة في أقبية الرقابة الإيرانية لأكثر من 25 سنة. والسبب أنه يناقش العنف في المجتمع الإيراني وانتشار ظاهرة الإنتحار بسبب الضغط النفسي الذي يعانيه المواطنون منذ نظام الشاه مروراً بالثورة الإسلامية وتداعياتها وصولاً إلى الفترة التي تعيشها إيران بعد تثبيت نظام الحكم الإسلامي.
ويبدو أن مأخذ السلطة الإيرانية على هذا الفيلم هو توضيح المخرج عبر السيناريو بأنه اكتشف أن النظام الحالي لا يختلف بقمعه عن النظام السابق الذي ناضل ضده وأطاح به، فينطلق من منظور انثروبولوجي يؤكد من خلاله على قناعته بأن ظاهرة العنف لا تتعلق فقط بالنظام السياسي بل تتجذر بعمق المجتمع الشرقي بشكلٍ عام.

مقص الرقابة
وبعد نظرة خاطفة على لمحات هذين الفيلمين، يبدو واضحاً أن الجهات السياسية التي تُحرِّك مقص الرقابة لا تحاكي بتوجهاتها مضمون الفيلمين أو ربما تجد نفسها محرجة بمضمنوهما. وإن كان منع عرض فيلم "أمور خاصة" مبرراً- برأي البعض- بعداء الدولة اللبنانية مع إسرائيل، فنحن لا نرى هذا مبرراً مقنعاً لمنعه طالما أن الفيلم يخدم القضية الفلسطينية ولا يتوجه بالعداء إلى لبنان. وإن سلمنا جدلاً بهذه الفرضية، فما هو مبرر منع عرض الفيلم الإيراني؟! والأهم من هذا كله هل يفهم القيمون على هيئة الرقابة الموقرة أن حرية التعبير المصانة بالقانون لا تتجزأ، وأن احترام الثقافات جزءاً لا يتجزأ من الحريات؟ أليس الفن منبراً للتعبير عن واقع وهواجس ومآسي الشعوب؟! 

لقد كانت هيئة المهرجان محقة بأسفها على صورة لبنان كبلد يصادر الحريات، فتاريخ بلد الحرف لا يجوز أن تقضم مقوماته رجعية الرقابة في زمن باتت فيه كلمة رقابة أشبه بنكتة! فهيئات الرقابة في العالم العربي ولبنان على ما يبدو تعيش بعالمٍ آخر منقطع عن عالم الإنترنت والميديا ومواقع التواصل الإجتماعي. وربما يكون طاقمها بحاجة ماسة للتحديث كي يفهم القيمون عليها أننا نعيش بعصرٍ مفتوح لم يعد فيه القمع ممكناً. فما يقطعه مقص الرقابة يعرضه الـYouTube ومواقع التواصل وقنوات التلفزة العالمية بأقل تقدير! 

رئيس يقدّس الحريات
يبقى أن الفصل بين السينما وأهواء السياسة مسألة ضرورية كمسألة فصل السلطة القضائية عن أهواء أصحاب المراكز السياسية حتى تبقى السينما لغة الحوار العاقل والمنبر الحر بطرح الجدليات. وربما حريّ بنا أن نضيف بنداً أساسياً على شروط انتخاب الرئيس بأن يصون الدستور بحرياته المقدسة ويعِد باحترام إبداع السينما وحرية الصحافة. فالفن حر والفكر حر ولا يمكن تقييدهما. ولا شك أن المخرج الإيراني "مخملباف" قد أبدع بتعليقه على وقف فيلمه حين قال:"من السهل إسكات مخرج سينمائي، ولكن من المستحيل قمع السينما".