في تقديمه لفيلمه "اشتباك"عند عرضه ضمن المسابقة الرسمية في الدورة الستين لمهرجان لندن السينمائي (6 إلى 16 أكتوبر/ تشرين الثاني الجاري)، قال المخرج المصري محمد دياب إن فيلمه يهدف إلى "التعايش" بين المصريين.

ولكننا نرى أن الفارق كبير بين التعايش، وبين المحاولة الواضحة لعدم اتخاذ موقف سياسي في فيلم اختار له مخرجه أن يدور في لحظة من أشد اللحظات السياسية استقطابا في مصر فى الآونة الأخيرة.

تدور أحداث "اشتباك" في أيام الغليان السياسي والاحتجاجات الطاحنة التي تلت عزل الرئيس المصري المعزول محمد مرسي صيف عام 2013 إثر انقلاب عسكري مدعوم بمظاهرات شعبية، لكن دياب يختار ألا يبدي موقفا واضحا مما يدور في المعترك السياسي في مصر، في فيلم وفي موقع أحداث يصرخ باتخاذ موقف.

تدور أحداث الفيلم داخل شاحنة ترحيلات تابعة للشرطة تلملم المتظاهرين بصورة عشوائية بكل أطيافهم. أول المحتجزين صحفي ومصور احتجزا لالتقاط صور للمظاهرات واكتشفت السلطات أن أحدهما مصري يحمل الجنسية الأمريكية، فألصقت به على الفور تهمة العمالة والتواطوء مع الخارج.

مع استمرار تأجج المظاهرات يبتلع جوف الشاحنة الكثيرين، بعضهم بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين والبعض هكذا لمجرد الاشتباه في تحريضهم على التظاهر. مع الوقت، سيزٓج في الشاحنة بالسلفيين والمؤيدين للعسكر والبلطجية وآخرين لا علاقة لهم بما يدور في المعترك السياسي.

وبامتلاء جوفها بالمتظاهرين في يوم صيف قائظ الحرارة، تتحول الشاحنة إلى نموذج مصغر لمصر في استقطابها السياسي وفي غليانها الخانق. وكان بإمكان دياب أن يخلق في الشاحنة معتركا سياسيا حقيقيا، ولكنه ينتزع فتيل الموقف ليتحول الأمر إلى كما لو كان من تضمهم الشاحنة حبيسين في مصعد معطل مثلا، لا داخل شاحنة للشرطة.

كان بإمكان دياب أن يجعل الشاحنة ساحة نقاش حقيقي وجاد لما يعتمل في مصر آنذاك من فوران سياسي، ولكن الأفكار المطروحة والكلمات التي تدور على ألسنة الشخصيات، في السيناريو الذي كتبه أحمد دياب شقيق المخرج، تأتي باهتة فاترة تلوكها الألسنة دون نقاش حقيقي.

التراشق بالكلمات، وأحيانا بالأيدي، داخل حيز الشاحنة الخانق يأتي من دون حماس أو زخم حقيقي وينتهي إلى نوع من التعادل الذي يأتي مغايرا لما يفترض أن يكون عليه الموقف من اتقاد.

الملاحظ في الفيلم أن دياب يضفي الكثير من الإنسانية على رجل الشرطة المصري، فالضابط المسؤول عن السيارة يبدي استعدادا لإطلاق سراح معتقلة إخوانية صغيرة في الرابعة عشر من العمر لأن له بنتا في نفس العمر، كما يبدو مستعدا لإطلاق سراح أم وابنها، ولكنه يرجع عن قراره بعد مقتل زميل له برصاص قناص إخواني.

يبدو أن الفيلم يحاول غسل يد الشرطة وتبيض صورتها وإلقاء اللائمة على أطراف أخرى، سواء كانت تلك الأطراف هي الإخوان أو المصريين عموما الذين يؤدي إخفاقهم في إيجاد صيغة للتفاهم وفشلهم في الوصول إلى قرار موحد إلى كارثة محققة.

لعل أكثر لحظات الفيلم صدقا تأتي بأمر الطبيعة، إن جاز لنا قول ذلك. تحتاج المتظاهرة الإخوانية الصغيرة إلى تفريغ مثانتها بعد يوم طويل في الشاحنة. تكاد الفتاة، ذات الطابع الثوري المتحدي عادة، أن تموت ألما وحرجا وخجلا مع عدم وجود مكان مخصص لذلك في الشاحنة.

وهنا نشهد لحظة نادرة من التعاون بين الجميع لإيجاد حل لمشكلة الفتاة ولإبعاد الحرج عنها. يبدو أن الفيلم يحاول نصف محاولة لإقناعنا بأن تنحية السياسة جانبا يجعلنا نرى بعضنا البعض كبشر لهم احتياجات جسدية ليس إلا.

ومن ومضات الصدق في الفيلم أيضا ذلك الشعور بالنخوة والشهامة الذي انتاب عسكري الأمن المركزي الذي حاول مساعدة الفتاة الإخوانية الصغيرة فما كان من زميله الخائف من الضباط إلا أن يزج به داخل الشاحنة مع المحتجزين.

لكن ما يحسب لدياب هو نجاحه في نقل هذا الإحساس بالاختناق في الحيز الضيق للشاحنة. خيار التصوير داخل الشاحنة قرار لا يحيد عنه المخرج إلا في لحظات قليلة تصور الفوضى العارمة في الخارج.

ولكن اللحظات الوجيزة التي يختارها دياب لتصوير الشارع مليئة بالدلالات، فدوي رصاص الشرطة في الخارج الذي يصم الآذان داخل الشاحنة لا يأتي إلا ردا على ما نراه من قذف المتظاهرين الشرطة بالحجارة. البادئ بالتحرش في الفيلم يقول الكثير عن الخيارات الأيدولوجية غير المعلنة للفيلم.

يُظهر الفيلم الإخوان المسلمين على أنهم الأكثر تنظيما والأقوى شوكة بين المحتجزين في الشاحنة. الأعضاء العاملين في الإخوان هم الأسرع في تنظيم أنفسهم داخل الشاحنة وهم سرعان ما ينتحون جانبا خاصا بهم في الشاحنة ثم يدنون منهم من خرجوا للتظاهر تأييدا لهم وينأون بأنفسهم عن الآخرين.

المشاهد الختامية للفيلم مروعة وخانقة في آن، حيث تعم الفوضى العارمة والصريخ والعويل والتشابك بالأيدي الشاحنة المغلقة التي اختطفها أحد المنتمين للإخوان في غياب سائقها الشرطي وضباط الأمن وينتهي الفيلم بالسيارة وقد فقدت الاتزان ويعمها ذلك الضوء الأخضر الذي يعمي الأبصار والصراخ. هي صورة نستخلص منها أن العربة، التي نحسبها تمثل مصر، بخير طالما هي في يد الشرطة، وأن ما أدى بها للتهلكة هو تدخل ذلك الإخواني الذي اختطفها عنوة.

لا يستخدم الفيلم الموسيقى التصويرية إلا في ما ندر ويعتمد على الأصوات والطبيعية معظم الوقت، وتغدو فيه شاحنة الشرطة رمزا لوطن تحولت ساحته لسجن كبير، ولكن معضلة الفيلم هو أنه يسعى إلى المهادنة فينتج خطابا سينمائيا متميعا. كنا نتصور أن نرى في "اشتباك" اشتباكا حقيقا كالذي يشير إليه اسمه، لكن ما نراه اشتباك بلا مخالب وبلا روح ينتج عنه فيلم يمكن أن نسميه بفيلم اللاموقف.