"إيلاف" من القاهرة: تناولت "إيلاف" في الجزء الأول&من سيرة الفنان القدير جميل راتب وحياته في مصر، وفترة سفره الأولى إلى فرنسا. لتستكمل اليوم السرد المختصر&اعتماداً على&مقتطفات من مقابلات متفرقة أجراها متحدثاً عن تفاصيل حياته الشخصية والفنية.

الطفولة&
يقول جميل راتب عن فترة طفولته:&"التحقت بمدرسة الأورمان الإبتدائية، وكنت أقلد كبار الممثلين بعد مشاهدتهم، وأحاول أن أؤدي بعض المشاهد المسرحية وعندما وصلت الى المرحلة الثانوية دخلت مدرسة الابراهيمية ثم مدرسة الليسيه الفرنسية ووقتها تكونت فرق الهواة في المدارس الأجنبية والجامعة. ومنها فرقة أسسها مؤنس وأمينة أولاد الدكتور طه حسين، وقدمت أعمالا مسرحية مترجمة عن روايات عالمية وكانت كل هذه الفرق تقدم عروضها باللغات الأجنبية خاصة الفرنسية التي كنت أتقنها تماماً. وبسبب هذا الاتقان نلت نجاحاً ملحوظاً في كل العروض التي شاركت فيها".
يضيف: "ذات يوم كنا نقدِّم مسرحية "أوديب" للكاتب الفرنسي أندريه جيد ودعوناه للحضور. فأعجب بي إعجاباً شديداً واستدعاني ليهنئني بشكلٍ خاص لادائي الممتع – من وجهة نظره- وللغتي الفرنسية المتقنة وهكذا بدأت أولى خطواتي في مجال التمثيل".

&



معارضة اسرية&
أما عن أسرته وموقفها من رفض عمله في التمثيل، فقال: "نعم رفضت أسرتي رفضاً قاطعاً عملي في التمثيل. خاصةً بعد أن علمت بمشاركتي بفيلم الفرسان التلاتة في العام 1946 مع المخرج فطين عبدالوهاب.&ولقد&أجبروه على&حذف كل مشاهدي في الفيلم. ثم أصدر والدي فرماناُ عائليا بسفري إلى فرنسا لدراسة القانون والإقتصاد السياسي. وذهبت فعلاً إلى هناك&نزولاً عند رغبة الأسرة. ولكن ضد رغبتي الشخصية".
ويقول عن تلك الفترة: "وصلت إلى باريس مدينة الفن والسحر والجمال والتحقت فعلاً بالجامعة. ولكن حب التمثيل وقف حائلاً بيني وبين استيعاب هذه المواد الدراسية الجامدة، فألتحقت بمعهد "الفيو كو لوبين" لدراسة التمثيل إلى&جانب استمراري في الجامعة. وعندما علمت أسرتي بهذا الأمر قطعت عني المعونات المادية، وقاطعوني تماماً. فكان لابد أن ابحث عن عمل للحصول على المال، وبالفعل تنقلت بين أكثر من وظيفة. فعملت كومبارسا ومترجما وشيالا في سوق الخضار وايضا التحقت بالعمل في بعض المطاعم واستمر الحال ثلاث سنوات هي مدة دراسة المعهد".
ويواصل حديثه: "أثناء هذه المرحلة الشاقة تعرفت على&عدد كبير من الناس في مجالات مختلفة خاصة المجال الفني وكان على راس الفنانين الذين عرفتهم في تلك الفترة المخرج المسرحي الشهير جان فيلارو الذي كان له الأثر الكبير في حياتي لاحقاً.

&

&


الفن في باريس&
عن الفن في باريس يقول:&"الفن في باريس يعني الحرية والإلتزام. والإبداع المسرحي له مكانة كبيرة هناك. ولقد بدات رحلتي المسرحية بعد تخرجي في معهد التمثيل حيث كونت فرقة للتمثيل مع مجموعة من الشبان الفرنسيين من بينهم الممثل الكبير "ميشيل بيكولي" و"كريستيان ماركو" وآخرين، وقدمنا عدة مسرحيات لعدد من المؤلفين الشبان آنذاك مثل يوجين يونيسكو الذي عرضنا له أولى مسرحياته "الدرس" في العام 1949. وكنا نقدّم كل أعمالنا علي المسارح التجريبية إلى أن شاركنا في مسابقة لفرق الشباب المسرحي في باريس وحصلنا على&الجائزة الأولى التي كانت عبارة عن تخصيص صالة عرض بإحدى المسارح الكبري لنقدِّم عليها أعمالنا لمدة شهر بدون أجر. وبالفعل قدمنا بعض المسرحيات وسط إقبالٍ جماهيري شديد دفع صاحب المسرح لاستضافتنا لأكثر من خمسة شهور متواصلة".

&

&


صلح عائلي&
أما عن الصلح بينه وبين عائلته فيقول: "في العام 1951 التحقت بالعمل مع فرقة الكوميدي فرانسيز وشاركت معها في جولة في&سوريا وتركيا وايطاليا ومصر. وعندما حضرنا إلى مصر لنقدم مسرحياتنا على خشبة دار الأوبرا، التقى&النجم الفرنسي جان مارشاه بالفنان الراحل سليمان نجيب الذي كان مديرالأوبرا وقتها. وأقنعه بأنني أصلح لأداء أدوار البطولة. وبالفعل قمت بأداء أول عمل فني مسرحي كبير بعنوان "الورثة". ثم قمت بتمثيل مسرحية "ثمن الحرية" للكاتب المسرحي "راسين" إلى جانب خمس مسرحيات أخرى من أشهر كلاسيكيات المسرح العالمي. وحضر أعضاء أسرتي العروض المسرحية التي قدمتها الفرقة وعندما شاهدوني في أدوار البطولة وأحسوا بالمكانة الفنية التي وصلت إليها، تغيّر موقفهم تجاهي. خاصةً وأن النظرة إلى الفن كانت قد تغيرت كثيراً في ذلك الوقت. وهكذ تحقق الصلح أخيراً بعد طول انتظار".

&



عودة جميل راتب لمصر&
أما عن عودته لمصر، فيتابع:&"في منتصف الستينات التقيت بالفنان الراحل صلاح جاهين الذي حاول إقناعي وقتها بالعودة إلى مصر، بعد أن تغيّرت الخريطة الفنية مع بداية الثورة وزيادة عدد المسارح. ولكنني لم أفعل وقتها إلى أن جئت في زيارة لأسرتي في العام 1975 وعرض علي المخرج المسرحي الراحل كرم مطاوع المشاركة في مسرحية البيانولا للكاتب محمود دياب، فوافقت. وأثناء العمل اكتشفت مخرجاً مسرحيًا عظيماً ومناخاً فنياً مختلفاً تماماً عن الوقت الذي تركت فيه مصر. فراودتني فكرة العودة. وبعد عرض المسرحية، توالت علي العروض&الفنية للعمل في السينما والمسرح والتليفزيون، فقررت الإستقرار في مصر، والتنقل بينها وبين باريس للعمل بين الحين والآخر.&
أما عن الفترة التي اعقبت وصوله لمصر، فيكمل:&"عندما جئت إلى مصر كنت أخاف أن يقولوا عني "خواجة". ولكن عندما عرض علي كرم مطاوع التمثيل في مسرحية "دنيا البيانولا" فوجئت باستقبال الجمهور والنقاد لي ولم يحدث ابداً أن يتهموني بهذه الشخصية،&حتى عندما قدمت شخصية "جيوفاني" عميد الإيطالين في مسلسل "زيزينيا"، حيث&لم يشعر أحد أنني قبلته لأني خواجة أو أن المخرج اختارني لهذا السبب".

بديل عمر الشريف&
وعن دور زيزينيا الذي برع في تجسيده درامياً، يكشف:&"الذي لا يعلمه أحد أن هذا الدور عُرضَ قبلي على الفنان المصري العالمي عمر الشريف، فرفض لأنه دور شخصية أجنبية. وقال بالحرف الواحد "هو أنا ح أقدم دور واحد أجنبي في مصر كمان". ولكنني قبلته بعد أن رفضه لأنني لم أشعر من داخلي بأن الجمهور يعتبرني أجنبيا".
&



أما&عن&نجوميته التي تبدو أقل من&موهبته الفنية، فيشرح:&"في عصرنا الحالي، جمهور المسرح أصبح محدوداً إلى حدٍ ما. ولذا أصبحت النجومية مرتبطة بالتلفزيون والسينما ارتباطاً مباشراً. وأنا لم أبحث عن هذه النجومية طوال حياتي. لأنني اصلاً لا أحب حياة النجوم. والظروف هي التي فرضت تواجدي في التلفزيون والسينما بعد أن عُرِضَت عليّ أدوار متميّزة في المجالين ولمخرجين كبار ومؤلفين جيدين، فلم أستطع رفضها. ولو أن المسرح المصري كان في حالة ازدهار وقت عودتي إلى مصر، ربما كان مصيري الفني كله قد تغيّر. فحلمي الأول والأخير كان ومازال أن أقدّم المسرح ممثلاً ومخرجاً، ولكن مع الأسف، تخليت أخيراً عن هذا الحلم لأن المسرح يحتاج لوقتٍ وجهدٍ وتركيز وتفرّغ ونشاط".
&



مشاركة سياسية&
أما عن انتمائه لحزب التجمع ومشاركته في السياسة معارضاً،&فيقول: "مفيش فنان مش سياسي". فالسياسة حولنا في كل مجال ويجب أن يكون للفنان موقف محدد ورأي وعقيدة. وأنا نشأت في أسرة أرستقراطية وطنية ولكنها في نفس الوقت اقطاعية، ولم أكن راضياً عن تقاليد الأسر الإقطاعية في مصر بشكلٍ عام. فقد شعرت بأنه من الظلم أن نفرق بين الناس بسبب مكانتهم الإجتماعية أو بسبب ثراء بعضهم، وفقر البعض الآخر. وعندما ذهبت إلى باريس اشتغلت في عدة مجالات وتعرّفت على فئات من الناس&لم يكن من المفروض أن ألتقي بها أو أعرفها، وناضلت وكافحت في الحياة مثلهم وعشت حياتهم ومشاكلهم، وكان لهذه التجربة أعظم الاثر في نفسي".
ويضيف: "فيما بعد تعلمت مبادئ الثورة الفرنسية القائمة على الحرية والأخوة والمساواة. واكتشفت أن طبيعتي قريبة من هذه المبادئ، وقريبة أيضا إلى التقدمية والتحرر وتنوير العقل. وكل هذه الأشياء دفعتني للإتجاه اليساري الذي يساعد الآخرين ويدافع عنهم، ويقف ضد الظلم والتفرقة العنصرية بكل اشكالها، وعندما قامت الثورة في مصر في العام 1952، فرحتُ فرحاً كبيراً، لأنها ستقوم بتصحيح كل الأوضاع التي كنت ساخطاً عليها. وكتبتُ بيان تأييد باسم المصريين والعرب المقيمين في فرنسا. ولقد شعرت وقتها بأن الثورة أعادت لي إحساسي الضائع بالإنتماء والوطنية، وعممت موقفي داخل المجتمع الفرنسي كانسان له وطن حر ومستقل".

واستطرد :"ثم قام العدوان الثلاثي علي مصر ورفض المثقفون الفرنسيون هذا العدوان ووصفوه باسم "الغزو الخائن المهين". وأرسلوا مذكرة احتجاج للحكومة الفرنسية كتبها سميون سينيوريه ووقعت عليها مع سارتر وألبير كامي وسيمون دي بوفوار، ووقتها رفضت كل الأعمال التي عُرضت علي، والتي شعرت أنها تناهض الثورة والوطن العربي. ثم قدمت مسرحية تتحدث عن رجال المظلات الفرنسيين في الجزائر وتدافع عن الحقوق المشروعه للشعب الجزائري في الإستقلال. وتم عرضها تحت حماية البوليس خوفاً من تهديدات الجماعات المتطرفة، خاصة الجماعات الصهيونية. فكانت هذه المسرحية تعبيراً عن رأيي في الفن أنه مرآة المجتمع، ولا بد أن يُعبّر عن كل ما يحدث فيه من متغييرات".

&



لم اكن شيوعياً
ويرفض اتهامه بالإنتماء إلى&الشيوعية شارحاً:&"هناك فرق بين اليسار والشيوعية. و"انا عمري ما كنتي شيوعي". وفي كثير من الأحيان كنت اتناقش مع أصدقائي الشيوعيين، ونختلف.&ولكننا لم نفقد صداقتنا مع اختلافاتنا السياسة. وكنت أرفض دائماً الانتماء لأي حزب. لأن الانسان داخل الحزب الواحد يصبح مقيداً بقوانينه ومعتقداته، حتى لو اختلفت مع ما يراه هو شخصياً، إلى أن تم إنشاء حزب التجمع في مصر. ووجدته ينادي بكل المبادئ&التي آمنت بها، ويضم بداخله تيارات مختلفة تتحاور فيما بينها بحرية فانضممت إليه لأنني مؤمن تماماً بأن الإنسانية لا تتقدم إلا بتبادل الحوار والأفكار، ولأن أي مجتمع ديمقراطي سليم لا بد وأن يكون فيه حزباً معارضاً".

ويضيف "راتب": "بمرور الوقت فقد حزب التجمع حماسه القديم. وأصبحت أنا عضواً غير فاعل&في.&ولكنني لم أمارس العمل السياسي بشكلٍ جدي. لكن&انضمامي لهذا الحزب، سبب لي في البداية بعض المضايقات. ففي&العام 1982 وقفت إلى جانب مرشح الحزب في الإنتخابات، فلم يُعرَض علي أي عمل جديد لأكثر من ثلاثة أشهر".

أما عن تلقيه التهديد&بالقتل، فيوضح: "أثناء الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب قررت اللجنة المركزية لحزب التجمع وضعي على قائمتها عن دائرة الزمالك. وبدات في عمل الدعاية الإنتخابية. لكن، بعد عدة أيام تلقيت مكالمات هاتفية غامضة تهددني بالقتل اذا لم أبتعد عن هذا الطريق. وبالفعل ابتعدت، ولكنني لم أتنازل عن أفكاري في الدفاع عن القضايا الإنسانية والإجتماعية والسياسية العادلة، وثبت علي موقفي ضد الإرهاب والعنصرية والمطالبة بالمساواة والعدل لإيماني&باننا يجب أن نناقش مشاكل العالم الكبرى،&ونساهم بقدر ما نستطيع في الوصول إلى عالمٍ أفضل".

يُذكر أنه حين تلقى تكريمه الأخير قال": "هذا آخر تكريم لي


&