"إيلاف ــــ تونس"- نوره البدوي: في الزمن الجميل كانت للكلمة سلطة للمعنى تتشابك في مغنى، وكان للموسيقى العربية هيبتها الركحية، و كان لها صدى في وجدان و مسامع المتلقي. فعندما كانت المغنية "نعمة التونسية" تُغني "الليلة عيد" ترى الكل سعيد وكأن الأغنية دستور فرح مشترك في كل بيت تونسي.

وكانت أغنيات أم كلثوم جرساً يدق أبواب القلوب لتلهم طريق المحبين، أما جارة القمر لفيروز فكانت مفتاح كل الصباحات بنسائم صوتها الملائكي.. وهناك الكثير من الأغاني لفنانين رسخت أغنياتهم في الذاكرة من خلال الكلمة واللحن والأداء.
لكن اليوم، ومع الثورة التكنولوجية التي نعيشها، أصبحنا نستقبل العالم عبر حسٍّ واحد، وهو "حضارة العين" بلغة الفيلسوف الفرنسي دي سيرتو. ما أثر على نمط الأغنية العربية وجعلها تتجرد من خصوصياتها ليتم توظيفها في خدمة مشهدية ما يسمى بـ"الفيديو كليب".

في إطار تحقيقنا عن التغيّرات التي رافقت الأغنية العربية اليوم حيال ما يسمى بمشهدية الفيديو كليب، توجهت "إيلاف" لمجموعة من المختصين في الموسيقى_وهم مدير المعهد العالي للموسيقى في تونس سمير بشه، الناقد الفني السوري "محمد عبيدو"، المغنية السورية بادية حسن، والشاعر الغنائي المصري "محمد لبيب"_ ببضعة أسئلة تلخصت بما يلي:
1- ما هو واقع الأغنية العربية اليوم في إطار ما يسمى بالفيديو كليب؟
2- هل جعلت مثل هذه الأغاني السريعة الجسد كوسيلة اتصال جديدة عوضاً عن الكلمات ؟
3- إلى أي مدى يمكننا القول أن الأغنية العربية فقدت هويتها في إطار ما يُبَث من مشهدية في الفيديو كليب؟

بشة
ويجيب مدير المعهد العالي للموسيقى بتونس سمير بشّة موضحاً أن "الأغنية العربية تُعبِّر عن واقعها الذي نعيشه اليوم. إذ لا يمكن أن تكون الأغنية العربية مغايرة للواقع الذي نعيشه، سواء كان ذلك تاريخياً أو أدبياً أو اجتماعياً أو ثقافياً. فهي على جميع المقاربات الممكنة ترجمة لواقعنا". ويضيف: "لو عدنا إلى الماضي على سبيل المثال في أواخر القرن 19 سنجد الموشح وكذلك المعزوفات في المشرق وتركيا إلى جانب التحميلة. فتلك القوالب الغنائية أو الموسيقية تُعبِّر عن الواقع في تلك الفترة بتعبيراتٍ موسيقية عربية تختلف بطبيعة الحال من بلدٍ الى آخر. ففي الشام نجد الدبكة، والإيقاعات الخليجية في منطقة الخليج والمقامات الشرقية في مصر تحديداً، والمألوف الليبي و الموشح... إذاً، هذا الواقع لا يمكن أن يُعبِّرإلا على فترة معينة من الزمن. وهو مرتبط بظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية.

ويُكمِل: في فترة الاستقلال حينما أسست الدول العربية إذاعاتها و منذ ذلك الحين بدأ الإنتاج المحلي، سواء في مصر "القاهرة" أو الإذاعة الوطنية التونسية من خلال إنتاج أغان تونسية لا زلنا نسمعها إلى الآن. و لكن ليست كالفترة التي وجدت بها الخمسينات والستينات والسبعينات. كل ذلك هو تأكيد على أن الأغنية العربية اليوم لا يمكن إأن تعبّر إلا عن هذه الفترة الزمنية التي تواكبها. و إن لم تكن مواكبة لفترتها الحالية فنحن في فترة خاطئة غير صحيحة."

ويستطرد قائلاً: "في تونس مثلاً، نحن نعيش فترة الأغنية القصيرة، ككل الدول، وهي لا تتجاوز 4 أو 5 دقائق. ولا ننسى أننا نعيش في عصر السرعة كما نعيش العولمة. يعني أصبحنا مطلعين على كل ما يجري في العالم ومطلعين على ما يجري في تعبيرات موسيقى بعض الدول الأفريقية كأوغاندا، والكونغو، و غيرهما من ثقافات الدول والشعوب. هذا يعني أننا أصبحنا قادرين على أن نستمع الى كل موسيقى العالم بخصوصيات المناطق والجزر في مختلف البلدان. حيث أصبحنا نتأثر بما نسمعه عن طريق التكنولوجيا الجديدة. فلم نعد نعيش في زمن الكاسيت او cd أو mp3 أو mp4. لقد تجاوزنا كل هذا. نحن في عالم رقمي مثبت عن طريق عناوين. و هذا بدوره انعكس على الأغاني الموجودة حالياً : الراب والهاردروك، و السلاام. كل هذه التعبيرات الموسيقية تُعبِّر عن واقعنا الذي يمكن أن نسميه اليوم بــالـ"فوضوي". وهذا ليس إشكالاً فالفوضى طريقة حياة وهي نمط من العيش، فهي اذاً مرتبطة بالمجتمع والتعابير الموسيقية تُعبرِّ عن الفوضى الموجودة في المجتمع."

أما بالنسبة الى أغاني الفيديو كليب فيعتبرها "ظاهرة ازدهرت مع وجود الفضائيات المختصة في بث هذه الأغاني المصورة. و هي تعبيرات تجمع بين الموسيقى والفرجوي بما تتمثل في المؤثثات السينوغرافية. فهذه الأغاني المصورة يتوفر فيها فريق عمل من مديري أعمال ودراسة معينة. وهنا يتحدث عن الاستثمار في الموسيقى وهو يتمثل في تحويل الثقافة إلى مال".

وفيما يتصل بفتح الفيديو كليب المجال للجسد كتعويض للكلمة، يقول: "في كثير الأحيان أصبح الجسد يُعبِّر أكثر من الكلمة. فالحركة تُعبِّر بطريقةٍ مهمة جداً و يوظفها المخرجون في العديد من التوظيفات وهناك أناس يشتغلون على الجسد أكثر من اشتغالهم على الأغنية في مستوى الكلمة واللحن و هؤلاء المنتجون حقيقةً يجدون فرصةً ذكية من الناحية المالية والاستثمارية وغير ذكية فكرياً وثقافياً. ما يعني أن هناك تناقض بين القبول والرفض لمثل هذه الأغاني. و هنا أتوجه بدعوة لعلماء الاجتماع لقراءة هذه النوعية من الفيديو كليبات."

في إطار الجدل حول تناقض تلك الكليبات مع هوية الموسيقى العربية، يجيب أن "الهوية تُعتبَر قضيةً كبرى، في مجال الإبداع. فالمنتج لا يجب أن بفكر بهذه المسألة، ولم يمسك أحد في حياتنا بالهوية التي يمكن إمساكها عن طريق الفكر، وليس عن&الطريق المادي الإبداعي. لأننا ننتج دون التفكير في الهوية. وكل ما ننتجه هو محلي، ولكن_ بتحفظ إلى درجة ما_ُ هو أيضاً متأثر بالعالم كما قلت سابقا. لأنه يتأثر بثقافة غربية وأفريقية ومغاربية وخليجية. فالإنترنت جعل الكل يتأثر و هذا يجعل الإنتاج فسيفساء من الألوان الموسيقية"

عبيدو
"الفيديو كليب" أفرز صوراً نمطية للجسد الغاوي
من ناحيته، يعتبر الناقد الفني السوري محمد عبيدو أنه "لابد من الاعتراف بأن الفيديو كليب، الذي أصبح منفصلا عن الأغنية المصورة ضمن السياق الدرامي للأفلام الإستعراضية السينمائية، قد ساهم في زيادة انتشار عدد من نجوم ونجمات الغناء العرب واستمرار حضورهم لسنوات. وساعد أحياناً كثيرة على التغطية على ضعف أصواتهم. كما ساعد على ذلك العمل مع مخرجين قادمين من خلفية سينمائية اشتغلوا على السيناريو وحركات المشاركين والأكسيسوارات والصورة والتقطيع المونتاجي، حتى غدا بعضها أقرب لفيلمٍ قصير."

ويضيف: "الاشتغال الإبداعي من طرف مطربين ومخرجين لم يرافق إلا تجارب قليلة بالفيديو كليب. فرغم تطور التقنيات ورغم الأموال الطائلة التي تهطل عليها، نلمس تراجعاً ابداعياً واستسهالاً في عمل الفيديو كليب عبر تكرار نموذجي لحركات راقصين وراقصات أو عارضات أزياء وأشكال وإيحاءات جنسية واضحة في خلفية غناء المطرب. لقد صار الفيديو كليب يلهث أكثر ليصبح إعلاناً تلفزيونياً عن كونه عملاً فنياً إبداعياً. وأرسى أوضاعاً مختلفة للجسد الغاوي، فاتحا الخيال على تنميط لصورة المرأة (والرجل أيضاً) في نموذجٍ افتراضي معولم بعيد عن الواقع. وبالتالي ترك المشاهد يعيش حالة من الإنفصام..

يستطرد: "لقد أخذت الأغنية المصورة مساحة بالبث التلفزي وتواصل ازديادها حتى أن هناك فضائيات خصصت ساعات بثها الكامل للفيديو كليب مستفيدةً من إمكانية القرصنة أحياناً كثيرة أو الحصول على فيديوهات بأسعارٍ رخيصة. ومن رغبات الشباب اللاهث وراء الإيقاع الراقص الصاخب أو الصورة المثيرة. وهو ما يزيد من عدد مشاهديها ومن عدد الإعلانات وبالتالي الربح من سلعة رائجة ضمن النمط الاستهلاكي المُعاش."

بادية حسن
أصبحنا نسمع بعيوننا
من جانبها، تعتبر الفنانة السورية بادية حسن أن "الأغنية العربية ليست في أوجها. فكل عصر تزدهر أو تنهار فنونه بحسب ازدهاره أو انحطاطه."
وتستدرك قائلة: "رغم ذلك، لنتفاءل قليلاً ونقول أنه بالرغم من التدني في مستوى الأغنية ككلمة ولحن وأداء وصورة إلا أنه يوجد تجارب محترمة وجادة ومبشرة بالخير لبعض الفنانين الشباب. وهي تجارب تدعو للتفاؤل كما يوجد الرديء وبكثرة وبوفرة." وتوضح: "أقصد بالرديء، العمل الغنائي الذي كل عناصره رديئة من جهة الكلمة واللحن والموسيقى. إلى جانب أداء وتقديم المغني أو المغنية لنفسه والكليب، ولكني حتى الآن لست متشائمة."
وهي ترى أن "المشكلة في هذه الأغاني السريعة تكمن بأنها ليست من ثقافتنا. وهي تقليعة غربية أخذناها وقلدناها دون أن نفهم أنها قد تناسب المجتمع الغربي وربما لا تناسب ثقافتنا. فلغة الجسد شيء جيد، وهي لغة مستخدمة في المسرح. ولكنها عندما تبُتذَل ويصبح هدفها الوحيد التركيز على إثارة الغرائز وإفراغ أي كلمة من المحتوى، تصبح خطراً على الذوق العام. وأغلب ما نراه من كليبات الأغاني السريعة ليس إلا استعراضاً يعتمد على الإيقاعات والرقص والتعرّي. وبالتالي أصبحنا نسمع بعيوننا بدليل أننا لا نستطيع التمييز بين أغنية وأخرى!"

وتضيف: "إن الأغنية العربية أصبحت منوطة أو مرتبطة بالتسويق. وصناعة الأغنية باتت تعتمد على خطة تسويقها. لذلك، فإن الأغنية الجيدة أيضاً ستدخل التجارة في انتقائها وإلا ستبقى حبيسة الاسطوانات، ولن تخرج إلى النور. وعليه، يمكن القول عموماً أن الطابع التجاري وتردي الذوق العام هو الغالب في عصرنا هذ. وهو ما انعكس على هوية الأغنية العربية التي أصبحت تحتاج إلى جهود حثيثة للنهوض بها عبر تبنّي التجارب الجديدة وإعطائها فرصتها، مع الحفاظ على القديم ومحاولة إحيائه لأنه النبع الذي لا ينضب."

لبيب
إيحاءات الفيديو كليبات تتنافى مع طبيعة المجتمعات العربية.
ويشرح الشاعر المصري محمد لبيب وجهة تظره في هذا الصدد: "أعتقد أن الإيقاع السريع قد أفقد الأغنية العربية مصداقيتها. خاصةً مع تحديد مدة إذاعتها على القنوات بما لا يزيد عن4 دقائق!"
وهو يعتبر أن الأغنية العربية، ومبدعيها يعيشون اليوم فترة ظلم. وهو ما يراه كارثة "بدليل أنهم يقولون أن الكليب ناجح بما هو مؤثثات بصرية وليس الأغنية". ويضيف: "هنا لا أريد أن أنقد كليبات بعينهىا. فما تحمله الفيديو كليبات يخدم توجهات تحمل إيحاءات تتنافى مع طبيعة المجتمعات العربية والأعراف الأخلاقية. لأنها أصبحت تجارة للجسد وتعريب ما لا يمت بصلة بلغتنا. فإذا نظرنا في شعراء الجاهلية وما كانوا يختارونه، سنشعر بإبداعات اللغة. وسنقارن بما آل إليه الوضع الراهن في مستوى الأغاني المصورة، لنجد أنفسنا أمام مصطلحات مشهورة بلغة الجسد."

ورغم هذا، يعتبر "لبيب" أن "الأغنية العربية موجودة ولا تفقد هويتها لأنها تحيا بداخلنا. فأغنية على اللي جرا، عندما أعاد غنائها صابر الرباعى نجحت ونجح بها. وأغنية أما براوه للفنان حسين الجسمي نجحت ونجح بها. وأغنية واحشتني نجحت واشتهر بها خالد عجاج . فالأغنية العربية موجودة وتراثنا العربي مليء .ومازلنا لا نمل من ترديده."