قدمين
BBC

أتقنت فن التخفي عندما كنت أعيش في المغرب، فنّ أن أجعل نفسي غير مرئية (أو على الأقل هذا ما كنت أتوهمه).

كل ما كان علي فعله هو التالي:

- أن أرتدي ثيابا لا تلفت النظر: كان خياري المفضل هو بنطال جينز فضفاض وقميص واسع لا يظهر شكل جسمي.

- أن أنظر دائما إلى الأسفل: كنت دائما أقول في نفسي "إن لم أراهم فربما هم لن يرونني أيضا".

- أن أطأطأ ظهري ورأسي عند المشي: وكنت أسمّي هذه الحركة "تكتيك السلحفاة" وكنت أقول في نفسي إنها تظهرني بمظهر شخص لا يرغب في أن يزعجه أحد.

"أن أنظر دائما إلى الأسفل: كنت دائما أقول في نفسي "إن لم أراهم فربما هم لن يرونني أيضا"
BBC
"أن أنظر دائما إلى الأسفل: كنت دائما أقول في نفسي "إن لم أراهم فربما هم لن يرونني أيضا"

كنت أتخيل نفسي كبطلة في إحدى الألعاب الإلكترونية؛ تتم مهمتي بنجاح إن لم يراني "العدو"؛ فكل رجل كنت أمرّ به في الطريق كان "عدوا محتملا" إلى أن تثبت براءته حتى لو كان بريئا من التحرش "براءة الذئب من دم يوسف".

وكان هذا "العدو" يتجلى بأشكال مختلفة؛ فقد يكون فتى بلغ للتو سن المراهقة، أو شابا في مقتبل العمر أو حتى عجوزا أبى أن يتخلى عن عاداته السيئة.

الحقيقة هي أنني تمنيت وسعيت لأن أصبح غير مرئية أثناء سيري في الشارع حتى قبل معرفتي أو فهمي لمعنى التحرش الجنسي.

شارع في المغرب
BBC
"أن أطأطأ ظهري ورأسي عند المشي: وكنت أسمّي هذه الحركة تكتيك السلحفاة"

نشأت في حي هادئ في العاصمة المغربية الرباط، وكنت طفلة نحيلة أركب دراجتي الهوائية، وألعب التنس، وأقفز على الحبل دون أن أثير انتباه الآخرين. كنت أشعر بالأمان وكنت أتساءل كثيرا عن سبب قلق والديّ من فكرة أن ألعب خارج البيت. هذا الشعور بالأمان ظل يصاحبني إلى أن بدأ جسدي يتحول إلى جسد مراهقة.

مع بداية سنوات المراهقة، بدأت بتقسيم عالمي في الأماكن العامة إلى عالم الرجال مقابل النساء: كان عالم النساء مرادفا للإحساس بالأمان، والتفهم، والنضال المشترك، بينما أضحت كلمة رجال في ذهني مرادفا للقلق والريبة والحذر.

عندما التحقت بالمدرسة الإعدادية قرر والداي أنني أصبحت كبيرة بما يكفي لأذهب مشيا وحدي إلى المدرسة التي كانت تبعد نحو ربع ساعة عن منزلنا - كانت تلك المرحلة أول احتكاك لي كفتاة بواقع الشارع المغربي.

ومع مرور الأيام أصبحت قادرة على تصنيف المضايقات التي أتعرض لها كفتاة إلى أربع فئات:

- المضايقات الخفيفة: وتتضمن عبارات من قبيل "ما نشوفوكش آلزين" وهي من عبارات "الغزل" في المغرب وغيرها من كلمات الإطراء السريعة.

- المضايقات المتوسطة: عندما يقوم أحدهم بتعقب خطاي بعدما قرر من نظرة واحدة أنه معجب، وأن عليّ أن أتوقف للحديث معه أو أن أعطيه رقم هاتفي على أقل تقدير.

- المضايقات فوق المتوسطة: وتشمل كلاما بذيئا بإيحاءات جنسية أو انتقادا لمظهري أو لون بشرتي أو حتى طريقة سيري.

- المضايقات الشديدة: عندما كان أحدهم يحاول لمسي وإن كان ذلك نادر الحدوث.

"حظ عثر"

زقاق مغربي
BBC

غالبًا ما كان مزاجي اليومي يتأثر سلبا حسب نوعية المضايقات التي كنت أواجهها وإن كانت هناك أيام أسميتها "أيام الحظ السعيد" عندما لم أكن أتعرض لأية مضايقات.

ولأن الإنسان عموما يتذكر أسوأ التجارب التي مر بها فأنا ما زلت أتذكر يوماً كان حظي فيه عثرا. كنت في الخامسة عشرة من عمري، وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر وأنا أمشي بخطى سريعة محاولة الوصول إلى المدرسة في الوقت المحدد للحصة الدراسية عندما اعترض شابان طريقي.

أظهر أحدهما سكينا كان مخبأ تحت قميصه وقال لي: "ستأتين معنا" وهو يشير تجاه البحر. كان كل شخص عاقل يعلم في ذلك الوقت أن المنحدر الصخري على طريق البحر يعد المكان المفضل للمدمنين أو أي شخص يود القيام بأفعال مريبة.

كنت أرتعد في داخلي ولكني حافظت على رباطة جأشي وقررت أن استخدم صوت العقل ولا ضرر في بعض الكذب أيضا لعله قد يكون مخرجي الوحيد.

بدأت أتمتم بكلمات من قبيل أنني في طريقي لإجراء امتحان مدرسي مهم وأن تأخري سيضعني في مشكلة كبيرة بسبب قساوة معلمتي.

وياللسخرية! بعد قليل من الأخذ والرد بديا متفهمين لموقفي وسمحا لي بالذهاب ودعواتهما بالتوفيق في الامتحان تصاحبني!!!

كنت أدرك في قرارة نفسي أن الحظ كان رفيقي ذلك الْيَوْمَ وأن نهاية ذلك المشهد كان يمكن أن تكون سوداوية.

لكن ذلك الموقف أعطاني ثقة أكبر في نفسي من حيث قدرتي على التعامل مع "العدو".

وفي حادثة أخرى كنت في طريقي إلى المدرسة مع صديقتي في الصباح الباكر عندما بدأ شاب بإلقاء إهانات لفظية تجاهي.

دون سابق إنذار، توقفت ونظرت إلى عينيه مباشرة، وقلت له: "لم هذه الكلمات الجارحة؟ ليس هناك سابق معرفة بيننا فما الذي يجعلك تقوم بإهانتي؟" اندهش من ردة فعلي لدرجة أنه بدأ بالاعتذار والتحجج بأعذار واهية.

ولكن واقع الحال هو أن لحظات الشجاعة كانت نادرة؛ فمعظم الأوقات كنت أتظاهر بأنني لا أسمع ولا أرى ما يدور حولي فلا أتكلم. وكنت أقول لنفسي إن هذه المعركة خاسرة لا تستحق أن أخوضها.

غير أن أخريات خضن المعركة بنجاح.

وأخيرا وبعد انتظار طويل، سن المغرب قانونًا جديدًا لمناهضة العنف ضد النساء يتضمن فقرة خاصة بالتحرش في الشوارع والأماكن العامة تنص على عقوبات ضد المتحرش تتراوح بين السجن من شهر إلى ستة أشهر وغرامة مالية تصل إلى ألف دولار.

كان لهذا الخبر وقع الموسيقى في أذني، وإن كنت أنتظر بلهفة لأعرف إن كان سيطبق هذا القانون بنجاح وإن كان سيمثل رادعا لمن تسول لهم أنفسهم التحرش في المستقبل.

رسوم:

مريم نيكان - بي بي سي Maryam Nikan