تحولت الصحف والقنوات التلفزيونية المصرية أخيرًا إلى "لسان" يدافع عن السلطة فارضة رقابة ذاتية قلصت من مساحة حرية الإعلام، فيما تضيّق السلطات على المعارضة أثناء خوضها "حربًا على الإرهاب" ضد مسلحين متشددين، حتى إن بعض أنصار السيسي وثورة 30 يونيو بدأوا يتذمرون من قمع الآراء المغايرة وإقصائها بعد إسكاتها.


القاهرة: يخشى خبراء من أن يؤدي سلوك الإعلام المصري الخاص والرسمي إلى اختفاء الأصوات المعارضة والمنتقدة للسلطة، خصوصًا مع تأييد القنوات التلفزيونية إطاحة الجيش بقيادة الرئيس الحالي وقائده السابق عبد الفتاح السيسي بالرئيس الإسلامي محمد مرسي، ثم أيّدت قمع أنصاره.

ومع توالي الهجمات ضد الجيش والشرطة في سيناء، ومعظمها تتبناه جماعة أنصار بيت المقدس الجهادية، التي أعلنت ولاءها أخيرًا لتنظيم الدولة الإسلامية، أصبح لا صوت في الإعلام يعلو فوق صوت "الحرب على الإرهاب"، وهو الشعار الذي ترفعه الحكومة في حربها ضد المتشددين.

معركة مشتركة
ومع الوقت، أصبح الخبراء الأمنيون والعسكريون والمسؤولون التنفيذيون يحتلون مساحات كبيرة من البرامج التلفزيونية السياسية المسائية للحديث عن الشأن العام في مصر، وهي أصوات تؤيد السلطة بشكل مطلق.

واختفى ظهور النشطاء الشباب، الذين عادة ما يوجّهون انتقادات إلى السلطة، وسط حملات إعلامية تستهدف الشباب والإعلاميين الداعمين للثورة، التي أطاحت الرئيس السابق حسني مبارك في العام 2011، وتتهمهم بأنهم "عملاء ومأجورون".

وتقول رشا عبد الله أستاذة الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة "هناك محاولة لمنع أي أصوات تغرّد خارج سرب تأييد السلطة، والأمر يشمل الليبراليين قبل الإسلاميين" مشيرة إلى أن الإعلام صار وكأنه "يردد نغمة واحدة".

وفي أعقاب اعتداء دام في سيناء أوقع 30 قتيلًا في صفوف الجيش في نهاية الشهر الماضي، سارع رؤساء تحرير الصحف الحكومية والخاصة إلى إصدار بيان يتعهدون فيه "دعم إجراءات الدولة ضد الإرهاب". كما أعلنوا "رفضهم التشكيك في مؤسسات الدولة أو التطاول على الجيش أو الشرطة أو القضاء، بما ينعكس بالسلب على أداء هذه المؤسسات".

بيان ضد الأحادية
لكن قرابة 500 صحافي احتجّوا على ذلك باصدار بيان اعتبروا فيه أن رؤساء التحرير يدعون عمليًا إلى العودة إلى "عصور الاستبداد والقمع وسيادة الرأي الواحد". وتعرب عبدالله عن اعتقادها بأن "الاستماع لرسالة واحدة طوال الوقت تقلل من فرص الوصول إلى حلول للمشاكل الحقيقية للبلاد، كما إن عدم السماح للآراء المعارضة سيعزز أكثر من اللجوء إلى العنف".

شيئًا فشيئًا، اختفى مذيعون ومقدمو برامج تميّزوا بالحس النقدي، وأبرزهم المذيعان باسم يوسف ويسري فوده. وأوقفت قناة إم بي سي برنامج باسم يوسف الساخر "البرنامج"، الذي كان يتمتع بجماهيرية واسعة قبل أيام من انتخاب السيسي رئيسًا في حزيران/يونيو الماضي، بعد تقديمه فقرة تضمنت انتقادًا غير مباشر للسيسي.

باسم يوسف التزم الحذر حين سئل عن أسباب وقف برنامجه، لكن حديثه يعكس قلقًا واضحًا لدى الإعلاميين غير الموالين للسلطة. وقال يوسف لفرانس برس بأسلوبه الساخر المعتاد "الناس يقبض عليها يمين وشمال (في أماكن كثيرة) وهناك اتهامات بالعمالة والتمويل الأجنبي ومنع السفر وأنت تسألني عن أسباب وقف البرنامج"، في إشارة منه إلى قمع المعارضة في مصر.

تبريرات واهية
وأشار إلى أن "استخدام مبررات واهية لتبرير إيقاف البرنامج مثل تلقيه أموالًا تعتبر إنكارًا للواقع الحالي" في الإعلام المصري. وتابع متسائلًا "هل يتصور أحد أن القناة أوقفت أكثر برنامج مربح لديها بإرادتها؟، هل اخترت أن أجلس في المنزل بإرادتي؟".

أما يسري فوده، الذي كان برنامجه "آخر كلام" مفتوحًا للناشطين المعارضين، فأعلن في الشهر الماضي انتهاء تعاقده مع قناة "أون تي في" الخاصة، وتوقف برنامجه من دون أن يكشف الأسباب. وقال معدون في قنوات خاصة لفرانس برس إن إدارات قنوات عدة طلبت من البرامج التلفيزيونية التقليل من حدة انتقاد الحكومة وإثارة ملف الحريات. بل إن مقدمي البرامج المؤيدين للسلطة الحالية لم يسلموا كذلك من التضييق.

وفي نهاية الشهر الفائت، انقطع البث بشكل مفاجئ وغير معتاد عن برنامج في قناة دريم2 الخاصة أثناء عرضه مقطع فيديو ينتقد وزارتي الإسكان والصحة، وأشار وائل الإبراشي مقدم البرنامج إلى أن "إدارة القناة منعتنا من استكمال الحلقة بسبب إصرارنا على عرض الفيديو".

تململ داخلي
وقال الإبراشي، وهو من أشد معارضي الإخوان المسلمين ومؤيدي السيسي لفرانس برس "بدأت أشعر بأنه توجّه حكومي. البعض لم يعد يتحمل الانتقاد، ولو من داخل معسكر 30 (حزيران) يونيو"، الذي أيّد إطاحة الجيش بمرسي.

ويرى محمد فتحي، الذي يدرس الصحافة في جامعة حلوان، أن "السلطة لا تمنع احد بشكل مباشر. ملاك القنوات يفعلون ذلك خدمة النظام الحاكم وإرضاء للرأي العام" الذي يؤيد السيسي، ويرى فيه "المنقذ" القادر على إعادة الأمن والاستقرار بعد ثلاث سنوات من الاضطرابات السياسية والأمنية. ويولي السيسي اهتمامًا جليًا بدور الإعلام، لكنه يعتقد أن الإعلاميين لا يدعمونه بالقدر الكافي.

وكان السيسي قال في اجتماع مع كبار الصحافيين قبيل توليه الحكم "لو (كان) عندك معلومة أو موضوع أهمس به في أذن المسؤول بدلًا من طرحه على الملأ". وأغلقت مصر نحو ست قنوات فضائية إسلامية فور إطاحة مرسي في تموز/يوليو 2013.

حصر الضيوف
من جهته، نفى المتحدث باسم رئاسة الجمهورية علاء يوسف "أي تدخل للدولة في ما تكتبه الصحف. لا يوجد أي قرار بوقف برامج أو صحف أو صحافيين". وقال يوسف لفرانس برس إن "الصحف مليئة بالانتقادات الموجّهة إلى الرئيس والحكومة. نحن نؤمن بحرية الرأي والتعبير". غير أن معدي برامج في التلفزيون الحكومي أكدوا لفرانس برس أن هناك "قائمة بأسماء 30 ضيفًا" فقط مسموح باستضافتهم في البرامج السياسية التي تناقش الشأن المصري.

ويقول بلال فضل، أحد أبرز الكتاب المعارضين، إن وضع الإعلام الحالي، "مؤسف وخطير على مستقبل مصر"، ولكنه "يعكس تأييد الشارع الكبير" للسيسي. ويضيف بلال، الذي لم يتلق أي عروض للكتابة في الصحف المصرية أخيرًا "الأخطر (من أي ضغوط) هي الرقابة الذاتية التي يمارسها رؤساء تحرير الصحف ورؤساء القنوات الفضائية على أنفسهم".

&