لندن: بين عامي 1513 و1517، رأى الكاهن الألماني مارتن لوثر البالغ من العمر 33 عامًا الله وجهًا لوجه، وشعر بأنه "ولد من جديد ودخل أبوابًا مفتوحة إلى الجنة".

كانت ولادة الكاهن الألماني مارتن لوثر الجديدة حدثًا خاصًا بينه وبين ربه، لكن اليوم الذي يُقال إنه علق قائمة من 95 شكوى ضد فساد الكهنوت على أبواب الكنيسة في فيتنبرغ بولاية سكسونيا، في 31 اكتوبر 1517 على ما يُعتقد، جعل الخاص عامًا وسرعان ما جعله سياسيًا كذلك.

أراد لوثر باحتجاجه - ومن هنا كلمة بروتستانتية - أن تعود المسيحية إلى "الإنجيل النقي" إلى تعاليم المسيح والحواريين.

أوجدت هذه العودة شكلًا جديدًا من الحرية، محوره الفرد، الأمر الذي مهد الطريق إلى الحداثة، كما يرى باحثون. يقول جاك برلينربلاو، عالم اجتماع في جامعة جورجتاون الاميركية: "إن فصل السلطات والتسامح وحرية الضمير أفكار بروتستانتية".

ما زالت البروتستانتية تغير أفواجًا من البشر. في العقود الأخيرة، سجل عدد معتنقيها زيادة كبيرة. ففي المانيا، مهد حركة لوثر، يعتنق مذهبه نحو نصف المسيحيين. لكن أوروبا لا تشكل اليوم إلا 13 في المئة من البروتستانت في العالم، وعددهم في نيجيريا يزيد أكثر من مرتين على عددهم في ألمانيا. واعتنق البروتستانتية زهاء 80 مليون صيني في السنوات الأربعين الماضية.

أخلى المسرح

فوجئ الباحثون بالانتعاش البروتستانتي في العالم. ويعبر انتشار البروتستانتية بين فقراء العالم عن فقدان الثقة بالمذاهب السياسية والعلمانية. وكما قال الكاتب الاميركي مايك ديفيز، فإن "ماركس أخلى المسرح للنبي محمد والروح القدس".

وفي حين أن زيادة عدد المسلمين بمعدل 1.9 في المئة سنويًا خلال الفترة الواقعة بين 2000 و2017 تعود في جانب كبير منها إلى النمو السكاني، فإن توسع البروتستانتية بمعدل 2.2 في المئة كان يعود إلى دخول أعداد جديدة في هذه الديانة. وعلى سبيل المثال، نصف بروتستانتيي اميركا اللاتينية لم ينشأوا بروتستانتيين.

ذهب ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الذي نُشر في عام 1905 إلى أن الرأسمالية الحديثة هي النتيجة غير المقصودة لـ"زهد دنيوي داخلي" في الأيام الأولى للبروتستانتية الحديثة.

كان مثل هؤلاء البروتستانتيين يحققون ربحًا ماليًا لكنهم لا ينفقونه صانعين مواطنين مقتّرين كدودين متعلمين ناكرين للذات دفعوا عجلة الاقتصاد إلى الأمام في بلدانهم. لكن قلة من الاقتصاديين يعيريون اليوم اهتمامًا يُذكر بآراء فيبر هذه ويشيرون إلى أن الرأسمالية كانت موجودة في المدن الايطالية الكاثوليكية في القرن الثالث عشر، قبل الاصلاح الديني، وان تطور شكلها الحديث تأثر بالكثير من العوامل الأخرى.

ارتباط الكنيسة بالدولة

لوثر نفسه كان ثوريًا بالصدفة. لم يكن يحاول تحديث عالمه بل انقاذه. ولو أصبح محاميًا كما أراد والده لتطورت المسيحية باتجاه مختلف جدًا، ولربما تحقق إصلاح الكنيسة من داخلها. والتغيير من الداخل هو ما كان يريده لوثر.

في البداية، كان لوثر والبروتستانتيون حريصين على استمرار ارتباط الكنيسة بالدولة، لكن برسم خطوط أوضح بين سلطات كل منهما. كان إبعاد الدولة عن شؤون الكنيسة يعني أن رجال الدين فقدوا قدرتهم على قمع الهراطقة بقوة الدولة. لكن لوثر كان راضيًا بذلك . وأصر على مكافحة الهرطقة من المنابر وفي المنشورات والكراريس لا بالاكراه.

كانت النتيجة انقسامًا في البروتستانتية بتداعيات سياسية. وانفجرت ثورة الفلاحين الألمان في عام 1524 بقيادة رجال دانوا القنانة بوصفها تتعارض مع الحرية المسيحية، وقالوا إنهم لن يوقفوا ثورتهم إلا إذا أمكن إثبات خطئها على اساس الكتاب المقدس. وصُدم لوثر بما اطلقته حركته وكتب كراسًا ضد سلب الفلاحين وقتلهم. ولكن بعد فوات الأوان.

على الرغم من انتصار الاصلاح في تحويل بلدان شمال اوروبا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، فإن انتصار الاصلاح الراديكالي كان له الأثر الأبلغ في شمال اوروبا وغيرها.

فتح اصرار الطوائف البروتستانتية الجديدة على ممارسة ديانتهم بحرية بعض المجال للتسامح وحرية الضمير مساهمة في تأسيس مبدأ تحديد الحكم.

سفك دماء

كان التسامح البروتستانتي مفيدًا للأعمال أيضًا. وأصبحت هولندا الكالفينية في أواخر القرن السادس عشر أغنى مجتمعات العالم مع توافد اللاجئين الكدودين من البلدان الكاثوليكية. في انكلترا، واصل الفيلسوف جون لوك ذو الجذور البروتستانتية القوية كتاباته عن حرية الضمير حتى أصبحت أساس الليبرالية الانكليزية.

سعى البروتستانتيون، مثلهم مثل الكاثوليك، إلى نشر مذهبهم بين شعوب أخرى ايضًا. كانت الدوافع إلى ذلك متناقضة، وكان احترام ثقافات الشعوب الأخرى ضئيلًا في الغالب وغير موجود في أحيان كثيرة، وكان بعض النتائج كارثية.

في المستعمرات، كما في اوروبا، تسببت المسيحية البروتستانتية بالكثير من سفك الدماء والاضطهاد. فخلال حرب الثلاثين عامًا بين دول بروتستانتية وكاثوليكية بالدرجة الرئيسية قُتل 8 ملايين شخص. عملت بريطانيا بكنيستها البروتستانتية أكثر من أي بلد آخر لتوسيع تجارتها شاحنةً نحو 12 مليون انسان عبر الأطلسي مقيدين بالسلاسل.

كانت اميركا البروتستانتية تسوق العبيد، الواصلين اليها مكبلين، بالسوط إلى العمل. وفي القرن العشرين، قرر البروتستانتيون الألمان، متأثرين بتعاليم لوثر، ألا يتدخلوا في شؤون الدولة حتى عندما وقعت السلطة بأيدي النازيين.

كان كثيرون منهم إما متواطئين أو غير مبالين إزاء ما كان يُرتكب من جرائم لا توصف تحت أنظارهم. وفي جنوب أفريقيا، كان الفصل العنصري مسنودًا بالكنيسة البروتستانتية هناك.

موت الله

في عام 1882، أعلن الفيلسوف فريدريك نيتشه الذي كان والده قسًا لوثريًا موت الله. وفي اوروبا القرن العشرين على الأقل، بدا أن هناك قدرًا من الحقيقة في اعلانه.

يتحمل اصلاح لوثر قسطًا كبيرًا من المسؤولية عن ذلك. فإن البروتستانتية بمساعدتها على تحديد شكل الغرب زرعت بذور دمارها ذاته. وباعطائها الناس حرية الايمان بما يريدون واختيار نمط الحياة الذي يرغبون فيه سمحت لهم بالكف عن الايمان اصلًا واختيار شيء آخر. وهي لم تتحرك جديًا لمقاومة هذا الاتجاه كما كانت ستفعل مذاهب أخرى. ويشير باحثون إلى أن السبب هو أن البروتستانتية "تثمن الشخصي والخاص على السياسي والعام".

من نتائج العلمنة الأوروبية والى حد ما الاميركية أن الانقسامات الدينية القديمة أخذت تلتئم. ما زال هناك تحامل مذهبي في مناطق من اوروبا، لكنه أقل كثيرًا من السابق.

كما أن البروتستانتية أقل تميزًا منها في السابق. وبحسب مركز بيو للبحوث، 46 في المئة من البروتستانتيين الأميركيين يقولون إن المطلوب هو الايمان وحده لضمان الخلاص - اساس موقف لوثر - لكن أكثر من نصفهم يعتقدون الآن أن العمل الصالح مطلوب ايضًا.

مع زوال الانقسامات بين المذاهب المسيحية، بدأ بعض الكنائس المنفردة تتفكك وتنهار. وفي الانغليكانية التي تضم كنيسة انكلترا والعديد من فروعها تدق المثلية اسفينًا بين المؤمنين في نصف الكرة الشمالي والمؤمنين في البلدان النامية.

في تراجع

حتى في أميركا، تتراجع نسبة البروتستانتيين. وانخفضت نسبة المذاهب الرئيسية، الأكثر ليبرالية في الغالب، من 18.1 في المئة إلى 14.7 في المئة خلال الفترة الواقعة بين 2007 و2014، بحسب مركز بيو للبحوث.

هبطت نسبة الانغليكانيين بقدر أقل من 26.3 في المئة إلى 25.4 في المئة. في هذه الأثناء ارتفعت نسبة الذين لا ينتمون إلى أي ديانة من 16.1 إلى 22.8 في المئة. لكن باحثين يتوقعون أن يستمر استخدام الدين في الحروب الثقافية.

اما في بلدان العالم النامي، فنمو البروتستانتية في أفريقيا واميركا اللاتينية لا يبدو محطة على الطريق إلى العلمنة. كما لا يبدو انها ستحول الاقتصاد أو السياسة على نطاق واسع، وأن تأثيرها ربما يكون قويًا، لكن من الجائز أن يكون غير مباشر ايضًا.

أدرك بعض البروتستانتيين أن قوة ايمانهم تخور حين يصبح مذهبهم هو الدين السائد. فالأماكن التي تكون البروتستانتية في أوج حيويتها وتبدو الأبرز سياسيًا هي الأماكن التي حافظت فيها على وضعها كأقلية.

على سبيل المثال، نمو الانغليكانية في الصين يحدث في سياق استنكار لها يبدو انها تستمد قوة منه. وتؤكد البروتستانتية في الصين أهمية حرية الضمير والسماح باستقلال الكنائس مع الاحتجاج على تشويه النصوص المقدسة وشجب الكنائس التي تحظى بموافقة الدولة على تواطئها مع سلطات الحزب الشيوعي. فأينما يصطدم الحكام المتجبرون مع مواطنين يطالبون بحقهم في الحرية الدينية ستبقى روح لوثر التقسيمية الحية مصدر الهام لفترة طويلة قادمة.

 

أعدت "ايلاف" هذا التقرير بتصرف عن "إيكونوميست". الأصل منشور على الرابط:

http://www.economist.com/news/essays/Luther?frsc=dg%7Ce