وصلت إلى العاصمة الأميركية دفعة جديدة من السفراء العرب، ينتظرون بدء مهامهم رسميًا. ربما يبدو هذا عاديًا في أي دولة أخرى، لكنه يكتسي أهمية خاصة في واشنطن التي تبقى عاصمةً حساسةً جدًا، بوصفها مركز عمل دؤوب للسفراء.

عاصمة مختلقة

هذه العاصمة مختلقة عن باقي عواصم العالم؛ فواشنطن عاصمة أقوى دولة في العالم، لا تستعصي على السفراء لكنها لا ترضى إلا بسفراء من مستواها، يظهرون أن دولهم - ولو كانت صغيرة - تستطيع استيعابها. هذا ليس كلامًا فحسب؛ فمثلًا، يبقى منصب السفير الأميركي في المملكة المتحدة شرفيًا وليس مركزيًا على الرغم من وجوده في لندن، العاصمة الأهم بالنسبة إلى عمق العلاقات الأميركية - البريطانية.

يعتمد المسؤولون الأميركيون كثيرًا على إمكانات سفراء الدول لديهم وقدراتهم. فبحركتهم وتحركاتهم واتصالاتهم وتواجدهم يحددون نظرة واشنطن إلى جدية دولهم وديناميتها. وبنظر واشنطن، يبقى السفير مفتاحًا لدولته، مهما كان عمق علاقات الولايات المتحدة بهذه الدولة. والانطباع الأول الذي تأخذه الأدارة عن السفير القادم حديثًا الى واشنطن يرافقه طوال فترة مهمته.

علاوة على ما سبق كله، على أي سفير في عاصمة القرار العالمي أن يتمتع بالقدرة على الوصول إلى من يريد، وإلى ما يريد، وأن يستطيع فرض جديته على الجميع، وأن يتمكن من التأثير في صناعة السياسة الأميركية، وأن يتحلى بالموثوقية العالية.

يقيس كبار المسؤولين الأميركيين من الحزبين أهمية أي سفير بقياس تعدد علاقاته ومصادره: كلما تنوعت كلما ظهرت ثقة السفير بموقف بلاده واستراتيجيتها وانفتاحها ووضوح رؤيتها.

تذكير مفيد

ومع وصول السفراء العرب الجدد إلى واشنطن في هذا الظرف العصيب الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط، من المفيد التذكير بأن دور الدبلوماسية الأميركية غاية في الأهمية على المستوى الاستراتيجي، وبأن دول المنطقة تستفيد فعلًا من هذه الدبلوماسية إن أحسن سفراؤها فهم تعقيدات السياسة الأميركية.

لكي تكون سفيرًا فاعلًا ونافذًا في واشنطن، يجب أن يرى المعنيون الأميركيون أن لك صلات ومداخل مع صانعي القرار في عاصمة بلادك. وعليك أن تثبت أن حكومة بلادك تُصغي إلى ما تقول، وتستمع إلى آرائك وتوصياتك. وعلى السفير وحكومته التي يمثل أن يمتلكا استراتيجية واقعية ليكون للسفير في واشنطن مداخل مجدية ذات معنى إلى مراكز القوة المختلفة، سواء في البيت الأبيض أم في الكونغرس أم وسائل الإعلام أم مراكز البحوث والدراسات. فالديبلوماسية لا تعمل في الفراغ، وليست بلاغة خطابها في ممارساتها سبيلها إلى الإقناع، بل إقامة التوازن بين الحوافز والمخاطر. وبالتالي، على أي سفير في واشنطن أن يكون عالي الكفاءة، يعرف كيف تعمل واشنطن.

قانون لوفتوس

على الديبلوماسي الناجح في واشنطن أن يسير بموجب "قانون لوفتوس"، نسبة إلى الصحافي جو لوفتوس الذي عمل طيلة ربع قرن في جريدة "نيويورك تايمز". يتلخص القانون الذي وضعه هذا الصحافي العريق سبيلًا لكسب ثقة وسائل الإعلام في النقاط الخمس الآتية:

1. إياك أن تكذب أو تحاول التضليل. فالصدقية أمر ثمين للغاية، ولا يجوز إساءة استخدامها، فإذا فُقدت يتعذَّر استرجاعها.

2. يجب أن ترد على الأسئلة بأجوبة مباشرة، ولا تخشى أن تقول لسائلك إنك لا تملك تعليقًا على كلامه.

3. إياك أن تدعو إلى مؤتمر صحافي ما لم يكن لديك أخبار تريد إذاعتها. فالصحافيون يحصلون على معيشتهم بالحصول على عناوين لصحفهم، خصوصًا إذا كانت تصلح للصفحة الأولى. لذلك، فإنهم يتوقعون الفوز بقصة مثيرة عندما تدعوهم إلى مؤتمر صحافي. فإذا خاب ظنهم سيحاولون خلق قصة باستدراجك إلى التفوه بكلام تافه.

4. ساعد المراسلين الصحافيين على تصويب الوقائع. فالصحافة من أهم وسائل الاتصال بالرأي العام. لا تتصرف على أساس أن الصحافيين أعداؤك، حتى لو كان ذلك مغريًا في بعض الأحيان.

5. كن مبادرًا في الكشف عن الأخبار، اي اجعل نفسك جزءًا من القصة الأصلية، لأن أحدًا لا يقرأ قصة قوامها ردة الفعل. لذا، عليك أن تكون سريعًا، لا تتردد ولا تُحجم.

الفاعلية عادة

لا يكفي أن يجيد السفير التكلم بالإنكليزية، قالمهم هو أن يكون قادرًا على الإقناع العقلاني بالمهارات التحليلية. ولا يسعفه البروز الاجتماعي والظهور في وسائل الإعلام الاجتماعية كي ينظر اليه صانعو القرار في واشنطن على أنه سفير جدِّي.

السفير الممتاز هو الذي يُظهر التواضع المرافق لحب الإطِّلاع والاستطلاع، فلا يجوز خلط الديبلوماسية مع سلاسة الكلام وزلق اللسان. يضاف إلى ذلك أن السفير الممتاز من الدرجة الأولى يجب أن يكتسب العادات الآتية، لأن الفاعلية عادة، كما يقال:

1. أن يكون "نشيطًا".

2. أن يعرف نهاية المطاف قبل بدايته.

3. أن يسعى أولًا إلى الفهم، ثم إلى الإفهام.

4. أن يتعلم العمل مع الآخرين.

5. أن يفكر بحالات الربح المزدوج.

أما العناصر الأخرى للنجاح فهي:

1. أن يُحسن الاستعداد لمهماته.

2. أن يفكر مليًا قبل أن يتكلم.

3. أن يكون له حلفاء نافذون.

4. السفير الناجح هو نتاج اقتران التحضير والاستعداد بالفرصة السانحة.

الثقة عملة رائجة

إن السفير الاستراتيجي هو الذي ينسج "شبكة كثيفة من العلاقات مع أناس يكونون معه في بعض الأحيان، وقد لا يكونون معه أحيانًا أخرى". يقول جورج شولتز، وزير الخارجية والمالية الأميركي الأسبق، إن أحد أفعل المخططين الاستراتيجيين في واشنطن هو برايس هارلو الذي كان يقوم بتشكيل وإعادة تشكيل التحالفات لبلوغ مواضيع محددة.

كان يعتقد أن على الناس أن تعرف أنك خصم عنيد، تقاتل بشدة وبمهارة للدفاع عن وجهة نظرك. يضع هارلو نصب عينيه بعض القواعد البسيطة، منها: الرد على المكالمات فورًا، التعامل مع أعضاء الكونغرس تعاملًا مستقيمًا، رفض فعل أي شيء يعرف أنه لا يستطيع فعله.

من أبرز شعارات هارلو وأهمها قوله: "إذا أعطيت كلامًا أو وعدًا، يجدر بك أن تفي بكلامك ووعدك، لأنك بذلك تبني الثقة"؛ وقوله: "الثقة هي العملة الرائجة في هذه البلاد".

فإذا قال سفير من السفراء إن هناك أمرًا غير مقبول، وليس هناك رغبة في فرض النتائج عندما يحصل الأمر، فإن كلماته تفقد معناها، ويفقد معها صدقيته، "فأن تقابل خصمك ليس دليل ضعف، لأن الشيء المهم هو ما تقوله".

أما السفير الحذق فإنه يفهم "أن التبجح بادعاء القرب من أهل السلطة شيء خطر، والصداقات حقيقية غير القابلة للانفكاك نادرة جدًا".

في نهاية الأمر، واشنطن محور تدور حوله السلطة وبلوغ السلطة، في ذلك المكان الذي يدعى واشنطن، إما أن تكون "من الدائرة الخارجية" أو تكون "من الدائرة الداخلية"، ولا ثالثة لهما.

النقطة الأخيرة، وربما الأهم، أن على السفير العامل فيها أن لا ينحاز إلى أي فريق في السياسة الداخلية الأميركية، لا في السر ولا في العلن، ذلك أن الهمس في أذن وسائل الإعلام الأميركية سيجد طريقه دائمًا إلى الطرف الآخر. إنه خطأ فادح ومدمر للسفير ولبلاده أن يُنظر اليه بأنه يحابي فريقًا ضد آخر. هذا الأمر يلحق ضررًا هائلًا ببلاده، ويسد الطرق في وجهه لانعدام الثقة به.